العبادة أمر فطري
ما هي العبادة؟
يقول المولى تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[1]، فالعبادة هي الهدف الذي خلق الله الإنسانَ لأجله. والأعمال التي يؤدّيها الإنسان إذا كان فيها لله تعالى رضًا فهي عبادة، حتّى لو كانت عملًا يرجع نفعه إلى الفاعل نفسه، مثل: السعي في طلب الرزق، وتحصيل العلم، والزّواج، أو خدمة النّاس، أو غير ذلك من الأعمال التي يؤدّيها الإنسان لرفع حاجاته الشخصيّة أو الاجتماعيّة. من هنا، فإنّ أيّ عمل يُنجز بدافع مقدّس هو عملٌ عباديٌّ، وبتعبير القرآن الكريم: هو "صبغة الله"[2].
فطرية العبادة:
تنقسم الأعمال التي يؤدّيها الإنسان بحسب الدوافع إلى أفعال تدفعنا العادة إلى القيام بها وأفعالٍ فطريّةٍ، فالأعمال المبنيّة على العادة يمكن أن تكون قيّمة كالأعمال الحسنة والجيدة، ويمكن أن لا تكون قيّمة كعادة التدخين مثلاً، أمّا الأعمال التي نؤدّيها بدافع الفطرة التي أودعها الله فينا فهي أعمالٌ قيّمةٌ دائمًا.وما تتميّز به الفطرة عن العادة، عدم تأثير الزمان والمكان والجنس والعرق فيها، فكلّ إنسانٍ، من جهة أنّه إنسان، يجد نفسه مدفوعًا نحوها كحبّ الأبناء، إذ هو صفة موجودةٌ في الكائن البشريّ لا يختلف في هذه الصفة أهل بلدٍ عن بلدٍ آخر ولا عرق من الأعراق عن غيره، ولا أهل زمانٍ عن غيرهم من السابقين أو الآتين[3]. أما الأمور التي تتعلّق بشكل اللباس ونوعه، أو بالطعام وطريقة تناوله، فإنّها من باب العادة، ولأجل هذا هي تختلف بحسب الزمان والمكان، وما هو مقبول في منطقة قد لا يكون مقبولًا في أخرى، وما هو مقبول في عصر قد لا يكون مقبولًا في عصر آخر.
والعبادة أيضًا من الأمور الفطريّة، لذلك نرى أنّ أقدم الآثار والمباني البشرية، وأجملها، وأمتنها على الإطلاق، هي آثار تتعلّق بالدِّين، كالمعابد (حتّى لو كانت معابد للأصنام أو النار). إذًا أصل العبادة أمرٌ فطريٌّ، وأمّا تطبيق العبادة فقد يختلف بين الناس، ومن ذلك الاختلاف في المعبود، فمن الناس من يعبد الله عزّ وجلّ ومنهم من يعبد الخشب أو الحجر أو غيرهما من الأصنام والأوثان.
كما يختلف الناس في طريقة العبادة وأسلوبها إذ تبدأ بعض أساليب العبادة من الرقص وضرب الأرجل بالأرض (الدبكة مثلاً) إلى أن تصل إلى أرقى أشكالها كما في حالة الدعاء والمناجاة مع الله، وهذا بدوره له مستوياتٌ أرفعها شأنًا ما كان صادرًا عن أولياء الله وأنبيائه. وبناءً على أنّ العبادة أمرٌ فطريٌّ، نفهم أنّ هدف الأنبياء لم يكن نفخ روح العبادة في الإنسان، بل إصلاحها لجهة المعبود أو شكل العبادة.
ويؤكّد وجود روح العبادة في الإنسان عبر التاريخ ما تركته الأمم والشعوب الغابرة من آثار عمرانيّة تُسمّى معابد: كالكنائس والأديرة، ومعابد الهندوس، وكنس اليهود، ومساجد المسلمين، بل أخذت العبادة عند بعض الشعوب أو بعض الأشخاص أشكالًا مختلفة كتقديس الأعلام والأوطان والأبطال القوميّين، وحبّ الكمالات والقيم والمعنويّة، وغير ذلك ممّا كان الإنسان وما زال مستعدًّا للتضحية بروحه من أجله. كلّ هذه المظاهر تكشف عن وجود أمرٍ فطريٍّ في نفوس الناس يُعبّرون عنه بأشكالٍ صحيحة حينًا وخاطئة أحيانًا. وعلى حدّ تعبير الشاعر الإيرانيّ جلال الدِّين الرومي: "عندك من العواطف ما لا تستطيع التعبير عنه، كعواطف الطفل وميله إلى أمّه".
لقد خلق الله عزّ وجلّ لكلّ ميلٍ وغريزة وضَعَها في الإنسان وسيلةً لإشباعها، فمن خلق العطش والإحساس بالحاجة إلى الماء خلق هذا الأخير للإحساس بالارتواء. ومن أوجد الإحساس بالجوع خلق الطعام لرفع الجوع. والله الذي جعل في الإنسان بشكلٍ فطريٍّ الإحساس بالميل الجنسيّ خلق الجنس الآخر وشرّع الزواج من أجل تنظيم إشباع هذه الحاجة، والأمر نفسه يُقال عن حاسّة الشمّ وعليها يُقاس ما سواها.
والميل إلى الخلود وعشق الكمال وحبّ البقاء كلّها غرائز أودعها الله في الإنسان، وهي ميول لا يمكن إشباعها إلا عن طريق العبادة والعلاقة مع الموجود الخالد والكامل المطلق الذي لا نقص فيه وهو الله تعالى. والصلاة تعبير من تعبيرات العلاقة بهذا الموجود المقدّس ولجوء من الإنسان إلى التواصل مع منبع الوجود والخير كلّه.
[1] سورة الذاريات: الآية56.
[2] سورة البقرة: الآية 138.
[3] وقد يسال سائل هنا: إذا كان حبّ الأبناء فطريًّا فلماذا كان بعض الناس في الجاهلية يدفن بناته وهنّ على قيد الحياة؟!
والجواب: هو أنّ الأمور الفطريّة متعدّدة وقد يوقع الخطأ في التطبيق وفهم المصاديق بعض الناس في حالة تناقضٍ مع أمرٍ فطريٍّ على حساب أمر فطريٍّ آخر. فحبّ الأبناء فطريٌّ والحفاظ على الشرف فطريٌّ أيضًا، ولأنّ بعض العرب كانوا يخطئون في فهم الشرف وكيفية الحفاظ عليه كانوا يضحّون بحبّهم لبناتهم حفاظًا على شرفهم وماء وجههم وهربًا من العار الذي كانوا يعتقدون أنّه سوف يلحق بهم بسبب البنت. ولسنا نقصد الدفاع عن فعل هؤلاء ولكنّنا نحاول تفسير القيام بفعل مخالفٍ للفطرة والطبيعة الإنسانيّة.