مواقيت الصلاة
الفجر : 04:56
الشروق : 06:14
الظهر : 11:21
العصر : 14:09
المغرب : 16:48
العشاء : 17:41
منتصف الليل : 22:38
الإمساك : 04:48
X
X
الاعلان

السرّ الإجماليّ للاستقبال

السرّ الإجماليّ للاستقبال

السرّ الإجماليّ للاستقبال

تمهيد

استقبال القبلة أو الكعبة في الصّلاة أمرٌ واجب لا تصحّ الصّلاة بدونه. وهذا التمركز في التوجّه إلى مكان واحد أو نقطة محدّدة، التي ترتبط في معناها بالله تعالى، يعلّمنا أن نوحّد توجّهنا العام في الحياة كلّها.

ولكي يحصل هذا التوحيد في التوجّه والسّير والسلوك، ينبغي أن نرفض كلّ توجّه آخر، وأن نتبرّأ من التوجّهات المتشتّتة في كلّ مظاهر الحياة.

أن نكون موحّدين في توجّهنا، يعني أن نرفض كلّ الانتماءات الأخرى والولاءات المتعدّدة، ونيمّم شطر وجودنا إلى معدن العظمة.

تأتي الصّلاة لتعيننا على تحقيق هذا التمركز، بشرط أن نراعي آدابها القلبيّة.

تقول لنا الصّلاة إنّ استقبالك للقبلة يعني أنّك تدّعي أمرين عظيمين، ويجب عليك أن تجعل هذا الادّعاء أمرًا حقيقيًا.

تكون الصّلاة لمن يطلب هذه الحقيقة فرصة سانحةً ليتمرّن وليروّض قواه الظّاهرة والباطنة على التوجّه نحو هدفٍ واحد ومقصدٍ فارد.

ما هو باطن الاستقبال وسرّه؟
لئن كنّا نعلم كيفيّة الاستقبال بالبدن، فما هو الاستقبال القلبيّ؟ هنا يجيب الإمام الخميني قدس سره قائلًا: "اعلم أنّ ظاهر الاستقبال متقوّم بأمرين:
أحدهما مقدّمي، وهو صرف الوجه الظّاهر عن جميع الجهات المتشتّتة.

والآخر نفسي، وهو استقبال الكعبة بالوجه، والكعبة هي أمّ القرى، ومركز بسط الأرض. ولهذه الصورة باطن، وللباطن سرّ، بل أسرار"1.

فالأمر الأوّل مقدّمة لحصول الثاني الذي هو مطلوبٌ بذاته، والذي يُعدّ حقيقة الاستقبال. وما لم يحصل الأمر الأوّل لا يمكن أن يتحقّق الأمر الثاني. إنّ التوجّه إلى الكعبة يحمل في طيّاته معنى التوجّه إلى منطلق الحياة الأرضية، لأنّ الأرض تشكّلت انطلاقًا من هذا البيت الأوّل الذي وُضع للناس. وما دامت الكعبة قائمة فالأرض باقية، وتبقى معها فرصة الإنسان للوصول إلى كماله وغايته.

درجات الاستقبال
يذكر الإمام الخميني قدس سره أنّ الاستقبال القلبيّ تابع لما في القلب وأحواله، ولهذا ذكر نوعين أو درجتين من الاستقبال، هما:

1- استقبال المجذوبين:
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فأصحاب الأسرار الغيبية يصرفون باطن الرّوح عن الجهات المتشتتة لكثرات الغيب والشهادة، ويجعلون جهة سرّ الروح أحدية التعلّق، ويجعلون جميع الكثرات فانية في سرّ أحدية الجمع.

فإذا تنزّل هذا السرّ الروحيّ في القلب، يظهر الحقّ في القلب بظهور الاسم الأعظم الذي هو مقام الجمع الأسمائي، وتفنى الكثرات الأسمائية وتضمحل في الاسم الأعظم، وتصبح وجهة القلب في هذا المقام إلى حضرة الاسم الأعظم.

فإذا ظهرت هذه من باطن القلب إلى ظاهر الملك، كانت صورة إفناء الغير في الانصراف عن غرب عالم الملك وشرقه، وصورة التوجّه إلى حضرة الجمع في التوجّه إلى مركز بسط الأرض الذي هو يد الله في الأرض"2.

المجذوب السّالك هو الذي يكون مبدأ سيره من الباطن إلى الظّاهر. فلمّا كان للبعض طهارة أوليّة ولم تتلوّث فطرتهم بألواث قذارات عالم الدّنيا، لم يحتاجوا إلى المجاهدة لأجل التخلّص منها. فسلوكهم ليس للمجاهدة، وإنّما هو تعبير عن وصولهم وفنائهم في
محبّة الله. المجذوب هو الإنسان الذي لم يخسر قابليّاته ليعمل فيما بعد على استعادتها، كما هو حال أكثر الناس، ولهذا تحصل له الجذبات الإلهيّة بدوًا. ومن ثمّ تتنزل هذه الحقائق من سرّه إلى روحه ومن روحه إلى قلبه حتّى تصل إلى ظاهر ملكه.

ولأنّ هذا المجذوب قد أعرض عمّا سوى الله تعالى في جميع مراتب الوجود، فإنّ إعراضه هذا سيتجلّى في عالم الملك والطّبيعة بصورة الانصراف عن شرق العالم ومغربه والتوجّه إلى الكعبة التي هي محل يد الله. فيكون استقباله حقيقيًا أيضًا.

2- استقبال السّالكين:
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وأمّا بالنسبة للسالك إلى الله الذي يسير من الظّاهر إلى الباطن، ويترقّى من العلن إلى السرّ، فلا بدّ له أن يجعل هذا التوجّه الصوريّ إلى مركز البركات الأرضية وترك الجهات المتشتّتة المتفرّقة وسيلة الحالات القلبيّة، ولا يقنع بالصورة الخالية من المعنى، ويصرف القلب الذي هو مركز توجّه حضرة الحقّ عن الجهات المتشتّتة المتفرّقة، التي هي الأصنام الحقيقية. ويتوجّه إلى القبلة الحقيقية التي هي أصل أصول بركات السّماوات والأرض، ويرفع رسوم الغير والغيرية، حتّى يصل شيئًا ما، إلى سرّ ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ3. ويحصل في قلبه أنموذج من تجلّيات عالم الغيب الأسمائي وبوارقه، وتحترق الجهات المتشتّتة والكثرات المتفرّقة ببارقة إلهيّة، ويؤيّده الحقّ تعالى، وتتحطّم الأصنام الصغيرة والصنم الأعظم من باطن القلب بيد الولاية. ولا انتهاء لهذه القصّة، فلأتركها وأمضِي"4.

وأمّا السّالك الذي يتّجه نحو الجذبة الإلهيّة، فعليه أن يتصنّع ما يعتقد به ويجاهد نفسه أن تعمل وفقه وبمقتضاه، عسى أن تدخل هذه المعاني إلى قلبه ومنه تحصل يقظة الروح وحياة السرّ. فإنّ في مثل هذا التصنّع والتعمّل أبلغ الأثر في تحصيل الحياة القلبيّة، وقد بنى الإمام قدس سره على هذا الأصل في جميع مراحل هذا الكتاب.

في بعض الآداب القلبيّة للاستقبال
1- تصديق الادّعاء:
وبعد أن علمنا درجات الاستقبال، ينبغي أن نتعرّف إلى أهمّ آدابه المعنويّة. وأهمّ آدابه هو بعد أن نعرف معناه أن نصدّق بهذا المعنى ونثبّته في قلوبنا. فموقف الاستقبال هو ادّعاء عظيم، لأنّ حال من يستقبل القبلة أنّه صرف وجهه وتوجّهاته عمّا سوى الله، ولم يعد في حياته سوى الوصول إليه.

أمّا الجهات المتشتّتة فهي كلّ نقص وناقص، وأمّا وجهة الله فهي الكمال الصّرف المطلق. ومن كان مستقبلًا على الحقيقة فلا يروم في الحياة سوى الكمال وتكون حياته عبارة عن سير متواصل في مراتب الكمال وهو معرض عن كلّ مظاهر النقص التي أصلها الإنيّة وشؤون الحياة الدّنيا وما يرتبط بها، يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أيّها السّالك إلى الله، إنّك إذا صرفت وجهك الظّاهر عن الجهات المتشتّتة لعالم الطّبيعة وتوجّهت إلى نقطة واحدة، فقد ادّعيت فطرتين من الفطر الإلهيّة، التي أودعت بيد الغيب في خميرة ذاتك، وقد خمّر الحقّ تعالى طينتك بها بيد الجلال والجمال. وقد أظهرت هاتين الحالتين الفطريتين بصورة ظاهرة دنيوية، وأشهدتهما بها، وأقمت البيّنة على عدم احتجابك عن نور هاتين الفطرتين الإلهيّتين، بصرف الظّاهر عن الغير والتوجّه إلى القبلة التي هي محل ظهور يد الله وقدرة الله.

وهاتان الفطرتان الإلهيّتان، إحداهما التنفّر عن النقص والناقص، والثانية هي العشق للكمال والكامل. والأوّل أصلي ذاتي والثاني تبعي ظلّي، من الفطر التي عجنت بها جميع عائلة البشر، ومن دون استثناء.

ففي جميع سلسلة البشر مع اختلافهم في العقائد والأخلاق والطبائع والأمزجة والأمكنة والعادات، في البدوي منهم والحضري، والبدائي والمتمدّن، والعالم والجاهل، والإلهيّ والطبيعي، هاتان الفطرتان مخمّرتان، وإن كانوا محجوبين عنهما، ويختلفون في تشخيص الكمال والنقص والكامل والناقص. فذاك المتوحّش السفّاك الفتّاك، يرى الكمال في الاستيلاء على نفوس الناس وأعراضهم ويرى السفك والقتل كمالًا فيصرف عمره لأجله.

وذاك الطالب للدنيا والطالب للجاه والمال، يرى الكمال بالمال والجاه ويعشقهما.

وبالجملة، فصاحب كلّ مقصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره. فالأنبياء عليهم السلام والعلماء بالله وأصحاب المعرفة قد جاؤوا ليخرجوا الناس من الاحتجاب، ويخلّصوا نور فطرتهم من ظلمات الجهل، ويعرّفوهم على الكامل والكمال. فإنّهم إذا شخّصوا الكمال والكامل، لن يحتاجوا إلى دعوة للتوجّه إليه وترك ما سواه، بل نور الفطرة هو أعظم هادٍ إلهيّ، وهو موجود في جميع سلالة البشر.

وفي هذا المرهم الإلهيّ، أي الصّلاة التي هي معراج القرب الإلهيّ، فإنّ استقبال القبلة والتوجّه إلى النقطة المركزية ورفع اليد وصرف الوجه عن الجهات المتفرّقة، هو ادّعاء بأنّ الفطرة قد تيقّظت وخرج نور الفطرة من الاحتجابات. وهذا الادّعاء حقيقي بالنسبة إلى الكمّل وأصحاب المعرفة. وأمّا بالنسبة لنا أصحاب الحجاب، فأدبه أن نفهّم القلب أنّه لا كمال ولا كامل في جميع دار التحقّق سوى الذات المقدّسة الكاملة على الاطلاق، فإنّ تلك الذات المقدّسة كمال بلا نقص، وجمال بلا عيب، وفعلية بلا شوب القوّة، وخير بلا اختلاط بالشرّ، ونور بلا شوب ظلمة. وكلّ ما في دار التحقّق من الكمال والجمال والخير والعزّة والعظمة والنّورانية والفعلية والسعادة فهو من نور جمال تلك الذات المقدّسة، وليس لأحد شراكة مع الذات المقدّسة في كمالها الذاتيّ، وليس لموجود جمال ولا كمال ولا نور ولا بهاء إلّا بجمال تلك الذات المقدّسة وكمالها ونورها وبهائها.

وبالجملة، إنّ العالم قد تنوّر بجلوة جماله المقدّس الذي وهبه الحياة والعلم والقدرة. وإلّا لبقيت دار التحقّق في ظلمة العدم وكمونه وبطون البطلان، بل من كان قلبه منوّرًا بنور المعرفة يرى كلّ شيء غير نور جمال الجميل باطلًا ولا شيء، ومعدومًا أزلًا وأبدًا.

وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سمع هذا الشعر للبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا الشعر أصدق ما قالته العرب"5"6.

2- تفهيم القلب:
يقول الإمام الخميني بعد ذكر حقيقة الاستقبال: "فإذا فهّمت قلبك بطلان جميع دار التحقّق وكمال الذات المقدسة، فلا تحتاج في توجّه القلب إلى القبلة الحقيقية وعشق جمال الجميل على الإطلاق والتنفّر من جميع دار التحقّق إلّا جلوة الذات المقدّسة، إلى إعمال رويّة، بل فطرة الله بنفسها تدعو الإنسان اليه بالدعوة الجبلّيّة الفطرية وتصبح ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ7 لسان ذات الإنسان وقلبه وحاله، وتصبح ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ8 لسان فطرته.

فاعلم أيّها الفقير، أنّ العالم بوجهته السوائية زائل وداثر وفانٍ وباطل، ليس لأحد من الموجودات من قِبل نفسه شيء وليس في ذاته جمال ولا بهاء ونور وسناء، والجمال والبهاء منحصر بالذات المقدّسة. فتلك الذات المقدّسة، كما أنّها متفرّدة في الألوهيّة ووجوب الوجود، متفرّدة بالجمال والبهاء والكمال أيضًا، بل متفرّدة بالوجود. وإنّ ذلّ العدم الذاتي والبطلان منقوش على ناصية ما سواه. فاصرف قلبك الذي هو مركز لنور فطرة الله عن الجهات المتشتّتة للأباطيل والأعدام والنواقص، ووجّهه إلى مركز الجمال والكمال، وليكن لسان فطرتك في ضميرك الصافي... ما يقوله العارف الشيرازي:
لا تسع قلوبنا أحداً غير الحبيب فدع الكونين للعدوّ فإنّ الحبيب يكفينا

وصيّة الإمام للمحجوبين
يقول الإمام الخميني قدس سره: "عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا استقبلت القبلة، فآيس من الدّنيا وما فيها والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله تعالى، وعاين بسرّك عظمة الله تعالى، واذكر وقوفك بين يديه، قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ9، وقِفْ على قدم الخوف والرجاء"10.

وهذا الحكم الشريف حكم جامع لأمثالنا المحجوبين الذين لا نستطيع أن نحافظ دائمًا على حالاتنا القلبيّة ونجمع بين الوحدة والكثرة ونتوجّه إلى الحقّ والخلق. فحينئذٍ لا بدّ لنا أن نيأس من الدّنيا وما فيها عند التوجّه إلى الحقّ واستقبال القبلة، ونقطع طمعنا عن الخلق وشؤونهم، ونخرج من روحنا وقلبنا المشاغل القلبيّة والشواغل الروحية لنصير لائقين للحضور في الحضرة، ويتجلّى في سرّ روحنا جلوة من جلوات العظمة. فإذا وجدنا نور العظمة بقدر استعدادنا، نتذكّر رجوعنا إلى الحقّ ووقوفنا في محضره المقدس: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ11، ويخطّ خطّ البطلان على جميع الأهواء النّفسانية والمعبودات الباطلة.

ففي محضر هذا العظيم الشأن الذي كانت دار التحقّق بأسرها جلوة من جلوات فعله، فإنّ مسكينًا مثلك ومثلي لا بدّ وأن يقف ويتردّد بقدمي الخوف والرّجاء. وإذا رأينا الضّعف والفتور والمسكنة والفقر والذلّة في أنفسنا، والعظمة والأبّهة والجلال والكبرياء في الذات المقدّسة، فنقع في الخوف والخشية من خطر هذا المقام، وإذا وجدنا الرحمة والعطوفة والألطاف غير المتناهية والكرامات اللانهائية نكون راجين وآملين".
 

* الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده)



1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 128.
2- م.ن.
3- سورة الأنعام، الآية79.
4- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 128 - 129.
5- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67, ص295.
6- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 129 - 132.
7- سورة الأنعام، الآية 79.
8- سورة الأنعام، الآية 76.
9- سورة يونس، الآية 30.
10- الامام جعفر الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 87.
11- سورة يونس، الآية 30.

| 8760 قراءة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد