الولاية على الوجود
من بركات الصلاة والعبادة أنّ الإنسان يُمكنه أن يتسلّط تدريجًا على الوجود عبر خطوات أهمها:
الخطوة الأولى: من المؤكّد أنّ التقوى تُنير بصيرة الإنسان وتمنحه الرؤية ليميّز بين الحقّ والباطل. يقول المولى تعالى في القرآن الكريم: ﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَان﴾، ويقول في آية أخرى: ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورً﴾. إذن، التقوى التي أساسها العبودية لله تعالى، وعلى رأسها الصلاة، هي خطوة باتجاه النورانية والتحلّي بالبصيرة والرؤية.
الخطوة الثانية: من يتقبّل الهداية الإلهية، ويدور في فلك الحقّ، فإنّ الله تعالى سيزيده هدى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾. فهداية المؤمنين ونورهم لا يتوقّف، بل هم في حالة قرب ورشد وكمال دائم، بدليل تسليمهم وعبوديّتهم، وبذلك يتّسع شعاعهم الوجودي، ويكبر أكثر فأكثر.
الخطوة الثالثة: يفتح المولى تعالى للمؤمنين سبلًا كثيرة من الهداية، للوصول إلى الكمال، في مقابل جهدهم وسعيهم في سبيل الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾.
الخطوة الرابعة: هؤلاء المهتدون إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا، واعتذروا إلى الله تعالى بمجرّد أن وسوس لهم الشيطان، وأراد إغواءهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾.
الخطوة الخامسة: إقامة الصلاة أفضل عامل لبناء الذات، وتجنُّب الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة تنهى المؤمن عن ارتكاب المعاصي: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾.
عندما يعتلي الإنسان هذه الدرجات ويرتقي هذا السلّم ويخطو هذه الخطوات المباركة، يشعر بأنّ له على نفسه سلطة ويجد أنّه قادر على التحكّم بها بإبعادها عن الوسوسة والانزلاق والانحراف، لا بل عندما يتعرّض إلى ضغوط الوسوسة، وأهواء النفس والطاغوت، يستعين بالصلاة والصبر، ويستمدّ منهما القوّة والقدرة في مواجهة هذه الضغوطات: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾.
الخطوة السادسة: المتّقون الذين أشرق النور الإلهيّ على صفحات وجودهم، يتقدّمون في كلّ صلاة يُصلّونها خطوة إلى الأمام، لأنّ الصلاة ليست تكرارًا (كما يظن البعض)، بل هي معراج، وهي تشبه السلّم الذي تتشابه درجاته في الشكل، ولكنّها ليست في مستوى واحد، فكلّ خطوة من قدم الإنسان تجعله يرتفع إلى الأعلى. أو كمثل إنسان يحفر بئرًا، فقد يبدو عمله بحسب الظاهر تكراريًّا، إذ يفعل الشيء نفسه دائمًا يحفر ويستخرج التراب، ولكنّ هذه الحركات المتشابهة تنزل به إلى أعماق الأرض، ومع كلّ ضربة معولٍ يضربها يكشف عن عمقٍ جديدٍ. والعبادات - ومنها الصلاة - هي أعمال ظاهرها التكرار، لكنّها في الواقع ارتقاء في سلّم الكمال، وتعمّق في المعرفة والإيمان. ولا يرضى المصلّي بأن يكون عمره مرتعًا للشيطان، كما ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام سيّد السجّادين زين العابدين عليه السلام: "فإن كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ..."فليس الشيطان وحده هو من يسحق روح الإنسان، ويجعله غافلًا عن الحقّ والحقيقة، بل الوهم والخيال، كذلك، يجعلان الإنسان غافلًا عن الحقّ. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يقظًا حتّى وهو نائمٌ، أمّا المحجوبون من أهل الدنيا فهم في صلاتهم غافلون وعنها ساهون، يتلاعبون بها كيفما شاؤوا، وما أجمل قول الشاعر الإيرانيّ جلال الدِّين الرومي إذ يُقارن بين يقظة قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغفلة غيره، فيقول: "قال الرسول تنام منّي العيون ولا ينام القلب عن ربّ الأنام، وأمّا أنت فإنّك ساهر العين غافل القلب، وأما أنا فإنّ نومي يفتح الباب بيني وبين ربّ العباد". ويقول في محلٍّ آخر متحدّثًا عن تأثير الوهم في القلب: "القلب كالريشة في مهبّ الرياح، يسبيها يمينًا ويسارًا جزافًا ويتركها أسيرة الوهم والاختلاف".
واعلم أنّ النفس إذا لم تُقيَّد ولم يُسيطِر عليها صاحبها فإنّها تجرّه إلى الفساد: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾، لذلك جعل الله تعالى الجنّة للمؤمنين المتّقين، الذين يقرنون القول بالعمل والكلام بالفعل، ولا يطلبون العلوّ والفساد في الأرض، ولا يتمنّون ذلك حتّى في قلوبهم وخواطرهم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فأولياء الله لهم قدرة على التحكّم في أفكارهم وخواطرهم وليسوا محكومين لها. وهم بعد خلوصهم في عبوديّتهم لله تعالى، يُسلّطهم الله على نفوسهم، فيسدّون عليها كلّ أبواب الوساوس والخواطر الفاسدة، فلا يطرق أبواب قلوبهم خاطر سوء. وعلى حدّ قول الشاعر الإيرانيّ: "أنا كالطير في أوج الفضاء، أنّى ينالني ذباب الأفكار البالية".
وعندما يصل الإنسان إلى النور والمعرفة، ويروّض نفسه، ويضبطها، ويوجّه روحه إلى رضا الله تعالى، ويتذوّق حلاوة صلاة العارف العاشق البصير، يتسلّط على نفسه، فتكون له الولاية عليها، عندها يستطيع أن يصل إلى مرحلة الولاية على الوجود، فيصير مستجاب الدعاء، ويصير ربانيًّا في أفعاله وسلوكه. ومعجزات الأنبياء تقع في هذا الصراط وتُصنّف على هذا الأساس، فالمعجزات التي يأتون بها هي شكلٌ من أشكال الولاية على الوجود التي يمنحهم إيّاها الله ويقدرهم عليها لما هم عليه من رقيّ النفس وخلوصها وارتباطها بمعدن الوجود.
من هنا، ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي عن الربوبية أُصيب في العبودية".
وقد رُوي في الحديث القدسيّ: "لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها"، وبذلك يصل إلى مقام إبراهيم الخليل عليه السلام حيث يقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1]، وفي هذه الحالة ينطبق عليه وعد الله إذ يقول: "إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له".
[1] سورة الأنعام: الآية 162.