سورة الحمد
بعد تكبيرة الإحرام يجب قراءة سورة الحمد، وتبطل الصلاة بتركها عمدًا، وقد ورد في الأخبار الفقهيّة: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب".
ويطلق أيضاً على سورة الحمد "فاتحة الكتاب"، لأنّ القرآن يُفتتح بها. في هذه السورة "7 آيات"1، وفي رواية جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّها أفضل سور القرآن. وهي السورة الوحيدة التي يجب على كلّ مسلم أن يقرأها (10 مرّات) كحدٍّ أقل في صلواته الخمس، ويكفي في أهمية هذه السورة وعظمتها أنّه ورد في شأنها أنّها لو قُرئت على ميت سبعين مرّة فإنّه لا عجب إن حيي!2.
معلوم من اسم هذه السورة "فاتحة الكتاب" أنّ آيات القرآن جميعها قد جمعت زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب "هو القرآن الذي بين أيدينا"، وقد جعلت هذه السورة "الحمد" في بداية القرآن بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. في آيات هذه السورة المباركة إشارات إلى الله سبحانه وتعالى وإلى صفاته، وإلى المعاد، وطلب الحق والهداية ومعرفة الطريق والسبيل المستقيم، والسلوك في طريقه، وقبول حكم الله تعالى، وربوبيّته ورحمانيّته، كما وتُبرز هذه السورة علاقة الإنسان وارتباطه المباشر والوثيق بالله تعالى في استمرار خطّ الأولياء والأوصياء، والتبرّؤ من الضالّين والمغضوب عليهم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: "ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟" قال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، علّمنيها. فعلَّمه الحمد أم الكتاب، وقال: هي شفاء من كلّ داء، إلا السام، والسام الموت3. فهي شفاء من الأسقام البدنية والروحية. وينقل المرحوم العلّامة الأميني في كتاب تفسير سورة الفاتحة روايات كثيرة. هذه السورة تتضمّن توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وبعبارة أخرى، مراحل الإيمان الثلاث: الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فالفاتحة هي أمّ الكتاب.
ملامح الدروس التربوية في سورة الحمد:
عند تلاوة سورة الحمد والابتداء بـ "بسم الله" يقطع الإنسان أمله ورجاءه من كلّ ما سوى الله تعالى.
عندما يقرأ "ربّ العالمين"، و"مالك يوم الدِّين" يشعر بأنّه مملوك ومربوب.
بكلمة "عالمين" يشعر الإنسان بالعلاقة بين ذاته والعالم، ويُقيم هذا الارتباط.
"الرحمن الرحيم" بهذه العبارة يرى الإنسان نفسه في ظلّ لطفه الواسع عزّ اسمه.
عندما يقول الإنسان "مالك يوم الدِّين" تُمحى غفلته عن الآتي والمستقبل، ويتذكّر أنّ يوم القيامة آتٍ لا محالة، وأنّ له مالكاً هو الله.
بعبارة "إيّاك نعبد" يُنحّي الإنسان أنانيته وغروره وحبّ الشهرة جانبًا، ويبتعد عن الرياء والسمعة.
"إيّاك نستعين" تعني أن لا يُفكِّر الإنسان في طلب العون والمساعدة من غير الله تعالى.
يفهم من كلمة "أنعمت" أنّ تقسيم النعم بيده عزّ شأنه، فلا مكان للحسد، لأنّ الحسود يعلن الاعتراض على حكم الله تعالى وعدله في تقسيم الأرزاق.
بعبارة "اهدنا الصراط المستقيم" نطلب السير على طريق الحق والهداية.
جملة "صراط الذين أنعمت عليهم" إعلان عن الانتماء إلى جماعة أولياء الله والسائرين على صراطه.
وفي الختام يقول: "غير المغضوب عليهم ولا الضالّين"، وهذا إعلان البراءة من الباطل وأهله، ممن ضلّوا الصراط، واستحقّوا العذاب الإلهي.
بسم الله الرحمن الرحيم
دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كلّ عمل هام وذي قيمة باسمِ كبيرٍ من رجالها، يكون شخصيّة محترمة ومحبوبة، لكي يبدأ العمل وينتهي بالبركة والخير. ومن المؤكّد أنّ كلّ شعب أو مجموعة تعمل بناءً لعقائدها وأفكارها، سواء كانت صحيحة أم فاسدة، فالبعض يبدأ أعماله ومشاريعه بأسماء الأصنام والطواغيت، والبعض الآخر باسم الله وذكره وعلى يد أولياء الله تعالى. فكما أنّ اليوم يوضع الحجر الأساس لكلّ مؤسّسة هامّة، أو بناء ضخم، أو مشروع كبير على يد شخصية كبيرة ومرموقة، كذلك في التاريخ الإسلامي، نرى أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ضرب أوّل معول عندما حفر المسلمون الخندق في معركة الخندق.
القرآن كتاب الوحي يبدأ ببسم الله، فالآية الأولى التي أنزلها الله على نبيه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة، أن يبدأ مهمّته الكبرى باسم الله: اقرأ باسم ربّك... ولذلك أيضاً فإنّ نوحًا عليه السلام - حين يركب السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه - يطلب من أتباعه أن يُردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها: ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَ﴾4، وانتهت هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار بسلام وبركة، كما يذكر القرآن الكريم. وسليمان عليه السلام يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾5.
وانطلاقًا من هذا المبدأ تبدأ كلّ سور القرآن بالبسملة، كي يتحقّق هدفها الأصل المتمثّل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الإيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن الرحيم.
ورد عن أمير المؤمنين أنّ "بسم الله" بركة الأعمال وتركها يوجب الفساد. وكذلك ورد أنّه عليه السلام نظر إلى رجل يكتب "بسم الله" فقال له: "جوّدْها إنّ رجلاً جوّدها فغفر الله له"6.
لقد أوصى الدِّين الحنيف بجريان عبارة "بسم الله" على اللسان في كلّ عمل وموضع، وفي بداية جميع الأعمال، عند الطعام والنوم، والركوب، والزواج وجميع الأعمال الأخرى، ومن المعلوم أنّ الذبيحة لا تحل إلا إذا ذُكِر اسم الله عليها، وسرّ ذلك، أنّ طعام الإنسان له هدف، ووجهته التوحيد، وجهته خالق الوجود الله تعالى.
لماذا البدء بالبسملة؟
كما أنّ أيّ إنتاج لأيّ مصنع يجب أن يحمل علامة تُسمّى "العلامة المسجّلة" أو "الماركة" التي تخصّ هذا الإنتاج بالذات، وكما أنّ كلّ وطن له علَمه الخاص الذي يُعرف به، ويُرفع في الساحات، وعلى السفن، والسفارات، كذلك الأمر، فإنّ "بسم الله" هي رمز الإنسان المسلم وعلامته، هذا الرمز المبارك ينطق به المسلم عند كلّ عمل صغير أو كبير، وفي كلّ مكان، سواء المسجد أم المعمل أم المنزل، وفي كل وقت وآن، صباحًا ومساءً، لذلك نقرأ في الحديث الشريف "لا تنسى بسم الله حتى في كتابة بيت واحد من الشعر"7. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا قال المعلِّم للصبي: قل بسم الله فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم يكتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه، وبراءة للمعلِّم من النار"8.
بحث: هل البسملة جزء من السورة؟
على الرغم من أنّ بعض العلماء والفقهاء لا يعدّون البسملة جزءاً من السورة، ولا يقرأونها في الصلاة، غير أنّ أكثر علماء المسلمين يُجمعون على أنّها جزء من سورة الحمد، وكلّ سور القرآن، على أنّ ذكر البسملة معمول به منذ زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اعترض المسلمون على معاوية عندما صلّى بالناس، ولم يقرأ البسملة، فقالوا له: "يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟"9. ويورد الفخر الرازي في تفسيره ستة عشر دليلًا على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد. ويذهب الأيّوبي في تفسيره إلى هذا الرأي. وأورد أحمد بن حنبل عددًا من الأخبار تُفيد أنّ البسملة جزء من كلّ سورة من سور القرآن.
أمّا أهل بيت رسول الله عليه السلام - وهم أعلم بكتاب الله تعالى بعد رسوله، وهم القادة والسادة والسابقون لجميع المذاهب الفقهية بأكثر من مئة سنة، وهم المضحّون والمستشهدون في سبيل الله، وقد وردت عصمتهم في القرآن بالتصريح - فمدرستهم عليه السلام جعلت البسملة آية مستقلّة وجزءًا من السورة، وقد أصرّوا على أن تُذكر في الصلاة وبصوت عالٍ. فعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا قمت للصلاة أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟ قال نعم، قلت: فإذا قرأت فاتحة الكتاب أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال نعم10.
وفي عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام قال: والإجهار بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في جميع الصلوات سنّة. وعنه عليه السلام أنّه كان يجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" في جميع صلوات بالليل والنهار11. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام عندما ذكروا أمامه أنّ أناسًا لا يقرأون البسملة في صلاتهم، ولا يعدّونها جزءًا من السورة قال: "سرقوا أكرم آية"12.
ويذكر العلّامة الشهيد مطهّري في تفسيره لسورة الحمد كلّاً من ابن عباس، وعاصم، والكسائي، وابن عمر، وابن النذير، وعطاء، وطاووس، والفخر الرازي، والسيوطي من الذين يعدّون البسملة جزءًا من السورة.
دروس وتعاليم من وحي البسملة:
"بسم الله" علامة الصبغة الإلهية، ومظهر وجهتنا التوحيدية.
"بسم الله" رمز التوحيد، أمّا أسماء غيره فهي رمز الكفر، والجمع بين اسم الله وأسماء غيره شركٌ، فلا يجوز أن يوضع اسمٌ مهما كان محلّ اسم الله سبحانه، ولا يذكر اسم مع اسمه، لأنّ معنى "سبّح اسم ربّك" هو تنزيه اسم الخالق من كلّ شريك.
"بسم الله" رمزُ البقاء والدوام، وكلّ شيء لا يُصبغ بالصبغة الإلهية فانٍ وهالكٌ13.
"بسم الله" رمز حبّ الله، والتوكّل عليه.
"بسم الله" رمزُ تجنّب التكبّر من جهة، وإظهار العجز أمام الحضرة الربوبية من جهة أخرى.
"بسم الله" رمز ضمان الأعمال باسم الله عزّ وجلّ.
"بسم الله" رمز القداسة التي تُعطى للأعمال.
"بسم الله" رمز الذكر الدائم لله تعالى، فعندما نقول بسم الله، يعني لا ننسى الله في كلّ حال.
"بسم الله" إعلان عن الهدف الذي يتبنّاه الإنسان، وكأنّه يقول إلهي أنت هدفي وغايتي، ولا أبغي سواك أحدًا، لا دنيا ولا مال ولا غير ذلك ممّا يطلبه أهل الدنيا.
"بسم الله" تعني حصر الاستعانة وطلب المساعدة بالله وحده.
"بسم الله" تعني أنّ سور القرآن، وما فيها من تعاليم ومضامين، نازلة من عند مبدإ الحقّ ومظهر الرحمة.
كلمة الله:
يؤمن عددٌ من العلماء الذي بحثوا عن أصل كلمة "الله" وحلّلوها، أنّ أصل هذه الكلمة من الفعل "أله" بمعنى عبد. و"الله" تعني المعبود الحقيقي الواقعي، وهي الجامعة لتمام الكمالات، والجامع لكلّ صفات الجلال والجمال، هو "الله" تعالى. ويرى آخرون أنّ أصل الكلمة من الفعل أو المصدر "وله" بمعنى الحبّ والعشق أو التعلّق المفرط والحيرة في المعشوق، من هنا، فقد قالوا إنّ كلمة "الله" تعني الذّات المقدّسة التي هي مركز جذب الموجودات العاشقة له، الوالهة والمتحيّرة فيه.
يجب الالتفات إلى أنّ كلمة "خدا" بالفارسية أو "خداوند" ليست الترجمة الكاملة لكلمة "الله"، لأنّ كلمة "خدا" هي في الأصل "خود آى" والتي هي في الفلسفة تقال لـ "واجب الوجود"، وكلمة "خداوند" تعني الصاحب، كما جاء في الأدبيات الفارسية "خداوند خانه" أي صاحب البيت. ولا شكّ في أنّ معنى صاحب أو الوجود الواجب، يبقى قاصرًا ولا يرقى إلى كلمة "الله"، بل إنّ كلمة الله تعني الذّات اللائقة للعشق والحب والعبادة، لأنّها جامعة لجميع الكمالات والصفات الجمالية والجلالية.
ورد في القرآن الكريم حوالى 100 اسم لله تعالى وهي (أسماء الله الحسنى)، و "الله" هي الكلمة الجامعة لكلّ هذه الأسماء، والتي هي صفات "الله" سبحانه وتعالى، فكل اسم من أسماء الله تعالى يُشير إلى صفة من صفاته تعالى، وليس فقط علامة أو إشارة إلى الله تعالى. فمثلاً أسماء البشر كثيرة ومختلفة، فبعض الأسماء هي إشارة إلى الشخص فقط وليست صفة من صفاته، ولا يتطابق اللفظ ومعناه مع صفات صاحب الاسم، بل في بعض الأحيان يكون معنى الاسم مخالفًا لصفات الشخص، فقد يكون اسم شخص "صادقًا"، لكنّه قد يكون في واقع الأمر "كاذبًا"! وفي بعض الأحيان يتطابق الاسم مع المسمّى وصفاته، كأن يكون اسمه "صادق"، وهو في الحقيقة إنسان "صادق"، فيكون اسمًا على مسمّى.
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾، وهي أسماء الله الحسنى والتي ورد في الروايات أنّها 99 اسمًا، ومن دعا بهذه الأسماء كان مستجاب الدعاء14، كذلك نقرأ في دعاء الجوشن الكبير، فندعو الله تعالى بألف اسم وصفة.
وردت كلمتا "الرحمن" و "الرحيم" بعد كلمة "الله"، لتبيّن لنا أنّ كلّ عمل ينبغي أن يبدأ بطلب المدد والعون (من الله) بصفة تشمل آثارها جميع المخلوقات، فيكون أمله ورجاؤه بلطف الله تعالى ورحمته، ويعلم أنّ الله عزّ وجلّ هو منشأ جميع الألطاف والرحمات والآمال، من هنا، فإنّ رمز بدء العمل بلفظة الرحمة هو أنّ الأصل والبناء الإلهي هو اللطف والرحمة، وأنّه من اللائق، لا بل من الضروري أن يستمدّ الإنسان العون والمدد من منبع الرحمة غير المتناهية. و "الرحمن" من الأسماء الخاصة بالله تعالى، لأنّ رحمته فقط واسعة ودائمة وثابتة، أمّا الغير فإمّا لا يملكون صفة الرحمة، فإن اتّصفوا بها فهي ليست واسعةً ولا دائمةً ولا ثابتةً، إضافة إلى أنّهم يتوقّعون الجائزة الدنيويّة أو الأخرويّة فهم "يطعمون البقرة من أجل الحليب". وسيأتي البحث في ما يتعلّق بلفظتي "الرحمن" و "الرحيم" في ذيل الآية مفصّلاً إن شاء الله تعالى.
الحمد لله ربّ العالمين:
الثناء والحمد والشكر لله تعالى الذي خلق الوجود كلّه، وسيّره نحو الكمال.
الحمد لله:
على الرغم من أنّ كلمات الحمد، والمدح، والشكر متشابهة في الظاهر من ناحية المعنى، فإنّ لكلّ كلمةٍ منها استخدام خاص، ومعنى متميّز، "فالمدح" هو الثناء بشكل عامّ، سواء كان على أمر اختياريٍّ أم غير اختياريٍّ، بحقّ أو بغير حقّ، بسبب كمالات الشخص أو بسبب الطمع والخوف، ونتيجة الوعي والمعرفة أم نتيجة الغفلة وسوء التقدير... وكلمة الشكر مفهومها خاصّ يقتصر على ما نُبديه تجاه نعمةٍ تُغدق علينا من مُنعِم يُنعِم علينا بإرادته واختياره، فالشكر يكون في مقابل الخير والنعمة. أمّا الحمد فبالإضافة إلى الشكر والمدح فهو ينطوي على معنى آخر وهو العبادة، يعني الشكر والمدح الذي يصل إلى حدّ العبادة، لذلك يمكن القول إنّ المدح والشكر قد يكونان لله وقد يكونان لغيره عزّ وجلّ، أمّا الحمد فلا يصحّ أن يكون لغير الله تعالى شأنه.
وردت بعد عبارة "الحمد لله" أربع صفات لله عزّ وجلّ وهي: "ربّ العالمين" و"الرحمن" و"الرحيم" و"مالك يوم الدِّين"، وهي تشير إلى أنّ الإنسان يجب أن يحمد الله عزّ وجلّ بسبب هذه الألطاف والعظمة والربوبيّة، لكن قبل هذه الصفات الأربع جاءت كلمة "الله"، وهذا يعني أنّ الحمد فقط لله، يختصّ به سبحانه وتعالى، لأنّه وحده أهل للحمد، حتّى لو فرضنا أنّه والعياذ بالله لا يتّصف بهذه الصفات التي وردت لاحقًا.
يقول الشاعر الإيراني: "إذا كنت تنظر إلى الحبيب طمعاً بإحسانه فأنت لم تتحرّر من ذاتك، ولم تصر أسيرًا للحبيب"15.
ربّ العالمين:
الله تعالى هو ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَ﴾16، ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾17. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: "ربّ العالمين من الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات"18. وقد يُراد من كلمة عالمين الإنسان أحيانًا، غير أنّ المراد منها في هذه الآية هو المعنى الأوسع، فعالمين جمع عالَم، والعالَم مجموعة من الموجودات والمخلوقات المختلفة- عالَم الإنسان وعالَم الحيوان وعالَم النبات، و"عالَمين" تعني كلّ مجموعات هذا العالم، أي جميع المخلوقات. وعلى ضوء هذا يتّضح بطلان الاعتقاد بوجود ربٍّ خاصٍّ لكلّ نوع من أنواع الموجودات. وهذا ما كان يؤمن به أهل الجاهليّة ويسمّونه "ربّ النوع"، وهذا أيضًا ما كانت تؤمن به بعض الأمم حيث كانوا يعتقدون بوجود ربٍّ للزرع والمطر وما شابه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
لقد خلق الله تعالى جميع الموجودات، وعيّن لها مسيرًا نحو الرشد والتكامل، فالتربية الإلهيّة هي هذا المسير، مسيرالهداية الذي خطّه لها خالقها: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾19. لقد منّ الله سبحانه على جميع الموجودات بنعمة الوجود، وهداها لتسير في خطّ الكمال، فهو الذي علّم النحل من أيّ الزهور تمتصّ الرحيق لتجني العسل، وعلّم النملة كيف تدّخر قوتها إلى فصل الشتاء، وخلق جسم الإنسان بهذه الصورة التي خلقه عليها، والتي يصدق فيها قوله تعالى: ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾20، بحيث تتجدّد خلاياه تلقائيًّا، ويتولّد الدم في عروقه وشرايينه بصورة ذاتية عجيبة.
إنّ خالقًا كهذا أهل للحمد والثناء. والحمد من خصوصيات الإنسان، فهو يظهر الثناء في مقابل الجمال والكمال، والشكر في مقابل النعم والإحسان، والله تعالى يليق به الحمد والثناء والشكر، فهو أهل للثناء والحمد لكماله وجماله، وأهل للشكر لإحسانه وإنعامه. من جهة ثانية، فإنّ مدح المخلوق والثناء عليه لا يتنافى مع حمد الخالق والثناء عليه، بشرط أن يكون في أمر الله وطاعته ومسيره، وفي الحقيقة، إنّ الثناء على العبد ينطلق من الثناء عليه سبحانه، لأنّ مواهب الواهبين وعطاء المعطين إنّما في الأصل من ذاته المقدّسة، فشكر هؤلاء والثناء عليهم هو حمد لله تعالى، وفي أي لغة كان الثناء فهو ينبع من الحمد.
ربّ العالمين: هذه العبارة تدلّ على أنّ العلاقة بين الربّ (الإله الخالق) والعالمين (المخلوقات) هي علاقة دائمة ووثيقة فالربّ من التربية والرعاية والإيصال إلى الرشد والكمال، ولا تنحصر ربوبيّة الله بالمؤمنين وحدهم بل ربّ ومربٍّ للمخلوقات كلّها، وقد عبّر القرآن عن هذا المعنى بقوله تعال: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورً﴾21، إذًا عطاء الله ممدود للمحسنين والمسيئين على حدٍّ سواء، والساحة مفتوحة للجميع، والظروف متاحة للجميع، لكي يصل كلّ واحد إلى الهدف الذي يشاء، لكن بالطبع، بما أنّ الدنيا دار تزاحم وتدافع وتمانع، فمن الطبيعيّ أن لا يصل كلّ الأشخاص إلى كلّ أهدافهم، وأن لا ينال كلٌّ منهم كلّ ما يبتغيه.
ربّ العالمين تعني أنّ الله سبحانه مالك الوجود ومدبّره، فكلمة "ربّ" أصلها إمّا من من (رَبَيَ) بمعنى الرشد والتربية، وإمّا من كلمة "ربّ" بمعنى الصاحب، والله تعالى هو صاحب العالم، وهو المربّي والمدبّر في آن: ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾22، فالخلق منه وله وإليه، وهو المدبّر والمدير لهذا العالم، وهو الهادي والمربي. وعبارة "الحمد لله ربّ العالمين" هي أفضل ما يمكن أن يُقال في شكر الله تعالى، بحسب ما ورد في الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام، وتوصي بعض الروايات والأحاديث بحمد الله والثناء عليه قبل أن ندعوه ونطلب منه حاجاتنا، وإلا فإنّ الدعاء يكون ناقصًا، ليس فقط في بداية الدعاء والتضرّع، بل نقرأ أنّ أهل الجنة يُكرّرون هذا القول في ختام دعائهم، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾23.
الرحمن الرحيم:
"الرحمن والرحيم" هاتان الكلمتان وإن كانتا من أصل واحد هو "الرحمة"، غير أنّ الرحمن تُشير إلى الرحمة الإلهيّة العامّة، فهي رحمة ابتدائية تشمل جميع البشر، الأولياء والأعداء والمحسنين والمسيئين، فالكلّ ينالون حظّهم من مائدة نعمته غير المتناهية، وهي رحمة عامّة شاملة لعالم الوجود كلّه وما فيه من كائنات. أمّا صفة "الرحيم" فهي خاصّة بالعباد الصالحين المطيعين، فهي الرحمة التي يستحقّها المؤمنون جزاء أعمالهم الحسنة. وإلى هذا المعنى يُشير الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "والله إله كلّ شيء الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة"24. والله تعالى قد أوجب على نفسه الرحمة، فقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾25. كما بعث رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه الكريم ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾26.
من جهة ثانية، فإنّ التربية الإلهية قائمة على أساس الرحمة، في حين أنّ العذاب والعقاب أيضًا من لوازم التربية، تمامًا كالمعلّم الذي يؤدّب المتربّي فيُعاقبه، وما غفران الذنوب وقبول توبة العباد، وستر العيوب والتكفير عن السيّئات، ومنح العبد الفرصة تلو الفرصة لجبر ما فات، سوى مظاهر لرحمته الواسعة.
إنّ الوجود كلّه من تجلّيات رحمة الله عزّ وجلّ، وكلّ شيء يصل منه إلى الموجودات هو لطف منه ورحمة. ومن هذا المنطلق، فإنّ جميع سور القرآن الكريم تبدأ بعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم".
جاءت عبارة "الرحمن الرحيم" إلى جانب عبارة "ربّ العالمين"، وهذا يعني أنّ التربية الإلهية مبنيّة على أساس اللطف والرحمة، كما أنّ تعليمه أيضًا قائم على الرحمة والعطف كما في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾27، وهذا في الحقيقة درسٌ لنا نحن البشر، فالمعلّم والمربّي يجب أن يكون دائمًا رحيمًا وعطوفًا.
مالك يوم الدِّين:
الله تعالى هو المالك وهو المَلِك، والوجود أيضًا مِلك تحت مالكيّته، ومُلك تحت سلطته وحكومته، ومالكيّته وسعت كلّ شيء، وهي شاملة لكل شيء، وحتى الحكومة فهي تحت مالكيته: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾28، كما الإنسان بالنسبة إلى أعضاء الجسم، فهو مالك، وفي الوقت نفسه حاكم عليها وآمر لها، غير أنّ مالكية الله تعالى واقعية، وليست اعتبارية تعاقديّة، الله تعالى هو مالك الدنيا والآخرة، لكنّ الإنسان يرى نفسه في الدنيا مالكًا لبعض الأشياء والأمور، لذلك يغفل عن المالك الأصليّ والحقيقيّ. لكن في ذلك اليوم، حيث تنقطع جميع الأسباب، وتُمحى الانتسابات، ويُختم على اللسان، وتُدرك مالكيّة الله تعالى بصورة واضحة، فتكشف السرائر، عندها، يأتي الخطاب: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، عندئذ تفتح العيون، ويأتي الجواب الواضح الذي لا لبس فيه ولا شكّ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾29.
ومن دلالات هذه الكلمة أنّ على المصلّي أن يتذكّر يوم القيامة، لأنّه يُكرّر في صلاته كلّ يوم مرّات عدّة عبارة "مالك يوم الدِّين"، وعلى المؤمن أن يلتفت إلى لوازم هذا المفهوم وآثاره، فيتذكّر يوم القيامة ليس في صلاته فحسب، بل في كلّ عملٍ يُقدم عليه.
كلمة الدِّين:
لكلمة الدِّين في اللغة معانٍ عدّة:
تعني الشريعة والقانون الإلهي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾30.
العمل والطاعة، كما في قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾31.
الحساب والجزاء، كما في قوله تعالى: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، والجزاء أبرز مظاهر القيامة. ومن أسماء يوم القيامة "يوم الدِّين"، كما ينقل القرآن على لسان المنكرين ليوم الحساب: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾32، أي متى يوم القيامة؟ أو في مقام آخر حيث يخبرنا عن يوم الجزاء معرّفاً: ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾33. إنّ عبارة "مالك يوم الدِّين" إنذارٌ وتحذيرٌ! وكأنّها تقول للمصلّي: فكّر اليوم في غدك، ذلك اليوم الذي يصفه الله عزّ وجلّ بقوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾34، اليوم الذي يصدق عليه أنّه يوم: ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾35، ذلك اليوم الذي لا يؤذن فيه لصاحب لسانٍ بالاعتذار، ولا لمفكّر بفرصة للتفكير والبحث عن جوابٍ، ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا العمل الصالح المقرون باللطف الإلهيّ.
أما ورود عبارة "مالك يوم الدِّين" بعد "الرحمن الرحيم" وإلى جانبها مباشرة، فيشير إلى أنّ البشرى والإنذار يجب أن يكون أحدهما إلى جانب الآخر، وينبغي أن يجتمع الترغيب والترهيب في سياقٍ واحدٍ. ونقرأ في آية أخرى قوله تعالى: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾36، غفور رحيم إلى جانب عذاب أليم، وكذلك يقول سبحانه في موضع آخر: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾37.
بناءً عليه، فإنّ عبارة "الرحمن الرحيم" جاءت لإثارة الأمل والرجاء، و"مالك يوم الدِّين" يُراد منها التحذير والإنذار، والمسلم يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، بين البشرى والإنذار، لكي لا يغترّ بنفسه من جهة، ولا ييأس من رحمة الله تعالى من جهة أخرى.
إيّاك نعبد وإيّاك نستعين:
"إيّاك نعبد" تعني أنّنا نحن فقط عبيدك، ولسنا عبيد الآخرين. فلهذه الجملة بعدان: البعد الأوّل: إثبات العبودية لله سبحانه. والبعد الثاني: نفي العبودية للغير. نعم، المدرسة الكاملة والإيمان الكامل يعني الكفر بالطاغوت إلى جانب الإيمان بالله الواحد الأحد، أمّا الذين يؤمنون بالله تعالى، لكنّهم يقبلون سلطة الطاغوت فهؤلاء أنصاف مسلمين، ولعلّهم ليسوا بمسلمين! فالإيمان بالله سبحانه دون الكفر بالطاغوت يعني أنّ المسلم أسير! لذلك يجب اللجوء إلى مركز الوحدة والقدرة، من أجل التحرُّر من الاستكانة إلى مدار الشرك والخروج منه، من هنا، فإنّ المصلّي يجب أن لا يرى أنّه الوحيد الذي يُناجي الله عزّ وجلّ، بل عليه أن يشعر أنّه يخاطب الله نيابة عن جميع المسلمين، وكأنّه يقول: ربّي أنا لا أليق وحدي بعبادتك ولست أهلًا لذلك، بل أنا أتوجّه إليك مع سائر المؤمنين وأضمّ عبادتي إلى عبادتهم لنتوجّه جميعًا إليك بالعبادة ونرفع أيدينا جميعًا بالاستعانة. فالعبادة والصلاة خاصّة فيها هذه الروح الجمعيّة ولعلّه لهذا السبب شُرِّعت صلاة الجماعة، فعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجماعة، وهذا يعني رفض الانعزال والفردية. وهذا من دلالات تقديم صلاة الجماعة على الصلاة فرادى التي هي بحسب الإسلام ينبغي أن تكون الحالة الاستثنائيّة للصلاة.
تحدّثت الآيات السابقة عن توحيد الذات والصفات، عن التوحيد النظري والمعرفة الصحيحة، وهذه الآية تتحدّث عن التوحيد العباديّ والعملي. توحيد العبادة: هو الإيمان بأنّ الله سبحانه هو وحده من يستحقّ العبادة والطاعة والخضوع، وهو الجهة المؤهّلة للتشريع دون سواه. كما يعني تجنّب أيّ نوع من العبوديّة والتسليم لغير ذاته المقدّسة. والتوحيد الأفعاليّ: هو الإيمان بأنّ الله هو المؤثّر الحقيقيّ في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلا الله). ولا يكفي الإقرار بهذه الأمور فقط، بل يجب أن يتطابق الإيمان والاعتقاد القلبيّ مع العمل أيضًا، فلا يجوز أن نُعلن بألسنتنا أو نُضمر في قلوبنا بأنّ الله وحده أهل للعبادة والطاعة، بينما جوارحنا وأعمالنا تنطق بغير ذلك، من العبوديّة والطاعة لغيره سبحانه جلّ شأنه، مهما كان هذا الغير شرقًا أم غربًا، مالًا أم ذهبًا، جاهًا أم مقامًا، بل لا نُطيع أحدًا من الخلق حتّى لو نبيًّا لولا أنّ الله يأمر بطاعته أو يأذن بها بالحدّ الأدنى، وهذا موقفنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّنا نُطيعه لأنّ طاعته طاعة لله سبحانه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظً﴾38. والأمر عينه يُقال في حقّ الآباء والأمّهات، فإنّنا نُطيعهم في الحدود التي أمر الله بطاعتهم فيها أو أجاز لنا ذلك، ومع هذا الأمر أو الإذن تكون طاعتهم طاعة لله ورسوله.
فالإنسان - بحكم العقل - يجب أن يتقبّل عبودية الله تعالى وحده، لأنّ الإنسان يعشق الكمال بفطرته، ويحتاج إلى الرشد والتربية والهداية، والله تعالى وحده الجامع لجميع الكمالات، والخالق لجميع الكائنات والموجودات، فإن كنّا بحاجة إلى المحبّة والرحمة، فهو الرحمن الرحيم، وإن كنّا نخشى على مستقبلنا، فهو مالك ذلك اليوم، وصاحب الإرادة والمشيئة المطلقة، إذًا، لماذا نتوجّه إلى غير الله عزّ وجلّ ونطلب العون منه؟
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: يعني أنّي مع الجماعة لكن قلبي متعلّقٌ بك لا بسواك، فلا أتنحّى جانبًا ولا أعتزل الجماعة ولا أترك المجتمع فأنسى خلقك، ولكن في الوقت عينه لا أذوب في المجتمع وأترك الخالق، بل أعلم أنّ المسير يعبر من الخلق نحو الخالق.
﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: وهذا المقطع من الآية يُفيد أنّه وعلى الرغم من العبادة والتوجّه إلى الله وعلى الرغم من الانتماء إلى الجماعة، فإنّنا يا ربّ نستخدم في عبادتنا الوسائل والجوارح التي أتَحتَ لنا استخدامها، ولكنّنا في الوقت نفسه نعلم أنّ الأسباب والمؤثّرات كلّها بيد الله سبحانه فهو السبب الأوّل والمؤثّر الأول، وهو القادر على تعطيل الأسباب كلّها. فإرادتك يا ربّ هي الحاكمة على الخلق، وفي جميع القوانين، والطبيعة محكومة لإرادتك. وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسبّبات، بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر الله عزّ وجلّ، فالله سبحانه هو الذي يمنح النار خاصية الإحراق، والشمس خاصية الإنارة، والماء خاصية الإحياء.
وهذا أعلى درجات الإخلاص في إعلان العبادة فإيّاك نعبد تعني التوجّه بالعبادة إلى الله وحده دون سواه والإقرار بين يديه بأنّه وحده يستحقّ العبادة فلا الخوف هو الذي يدعونا إلى العبادة ولا الطمع، بل الحبّ وأهليّة الله للعبادة دون أيّ شيء آخر. وبعد إعلان العبادة يأتي دور الاعتراف بأنّ المؤمن وإن كان يعبد الله إلا أنّه حتّى في عبادته مهما كانت درجة خلوصها هو يستعين بالله على أداء حقوقه عزّ وجلّ. وهذا تجسيم للمبدأ الاعتقادي الذي يقول: "لا جبر ولا تفويض". فنحن نعبد بإرادتنا واختيارنا، ولكنّنا نستعين بالله على ما يصدر منّا من عبادة فلولا عون الله لما استطعنا أداء حق ّالعبادة.
إيّاك نعبد وإيّاك نستعين: يعني أن نُقيم الصلاة جماعة، مسلمين، صفًّا واحدًا، إخوة، متّحدين، متضامنين، ومتكاتفين.
إيّاك نعبد: يعني يا إلهي أراك حاضرًا وإليّ ناظرّا، لذا أقول: "إيّاك"، وهو ضمير المخاطَب وليس ضمير الغائِب. فإنّ العبد الذي يرى نفسه في محضر الله تعالى وبين يديه فإنّ نصيبه من الربح الإلهي يكون أسرع وأكبر.
سورة الحمد تتحدّث مع الله تعالى - منذ البداية - بصيغة الغائب، لكن هنا يتحوّل الأسلوب من الغيبة إلى الحضور واستخدام صيغة المخاطَب، خطاب مع الله تعالى "إيّاك". في البداية نتعرّف إلى صفات الله عزّ شأنه، لكن هنا نصل إلى ذات الله تعالى "إيّاك". وليس الأمر لمرّة واحدة، بل تتكرّر "إيّاك" أكثر من مرّة، لأنّ للخطاب مع المحبوب حلاوة خاصة. من هنا، فإنّ العروج الروحيّ والمعنويّ له مراحل، ففي بداية السورة حمد وثناء، وفي "إيّاك نعبد" علاقة وارتباط، وفي "إيّاك نستعين" دعاء وطلب مساعدة، وبذلك تكون المراحل: ثناء، وارتباط، ودعاء.
صحيح أنّ العبادة من طرفنا نحن البشر، غير أنّنا نحتاج في العبادة إلى عونك ومددك: ﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾39، فلولا المولى تعالى ما اهتدينا.
على الرغم من أنّنا نستعين بالله سبحانه ونطلب العون منه تعالى، لكن لا إشكال في طلب العون من غيره ما دام ذلك برضاه، مثلما يستعين الإنسان باستعداداته ومواهبه وفكره وقوّته، وهذا لا ينافي التوحيد، فالله تعالى يأمرنا بقوله: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾40، لأنّ الحياة بلا تعاون ومساعدة غير ممكنة. ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: قلت: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عليّ لا تقولنّ هكذا فليس من أحدٍ إلا وهو محتاج إلى الناس، قال: فقلت: كيف يا رسول الله، قال: قل: اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك، قلت: يا رسول الله ومن شرار خلقه؟ قال: الذين إذا أُعطوا منعوا، وإذا مُنِعوا عابوا41.
من يقول: "إياك نعبد" صادقًا، لا تتسرّب إلى نفسه أوهام العجب وروح التكبّر والغرور والأنانية، ويكون في المقابل خاضعًا لتعاليم الله سبحانه، ومطيعًا لأوامره، فيظهر أكبر وأفضل تذلّل في محضره، لأنّه يعلم أنّ الله الواحد يمنحه أعظم لطف وأكبر نعمة ورحمة، مثل العبد المطيع في مقابل مولاه، مثل العبد الكامل العبوديّة في مقابل مولى كامل المولويّة لا يحدّ ولايته حدّ، يقول خاضعًا خاشعًا في محضره: "أنا عبدك وأنت مولاي" ليس عندي من أحد سواك، فكلمة "إيّاك" تدلّ على الحصر، أي أنت دون سواك. أمّا أنت فتملك غيري الكثير الكثير، وكل الوجود لك، ذليل أمامك، مملوك لإرادتك، وفي قبضتك، فأنت لست محتاجًا إلى عبادتي، غير أنّي غارق في الحاجة إليك، وما عبادتي سوى مظهر من مظاهر الحاجة، فأنا رهين لطفك، وأطلب العون دائماً منك.
﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾: قافلة الوجود في حركة مستمرّة إلى الله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾42، والإنسان أيضًا في جهد وحركة دائمين: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾43، وفي كلّ حركة يوجد خطٌّ مستقيم واحد فقط، أمّا باقي الطرق والخطوط فهي منحرفة، والإسلام الحنيف عيّن لهذه الحركة طريقًا ودليلًا أيضاً، فحدّد المقصد وعيّنه وجعل وسيلة الحركة في اختيار الإنسان، فنحن البشر علينا أن نختار أي طريق نسلك.
لقد جعل الله تعالى في عمق روح الإنسان وفطرته ميلًا إلى الرشد والكمال، وطلب الحقّ والبحث عنه، فإذا تطوّر هذا الميل وترعرعت هذه الرغبة في ظلّ تعاليم الأنبياء، فإنّ الله عزّ وجلّ يولي الإنسان عنايةً خاصّةً: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾44. على أنّ القرآن الكريم قد طرح نوعين من الهداية، هداية تكوينية نظير هداية النحل، إذ علّمه الله وهداه إلى جمع الرحيق من الأزهار وتحويله إلى عسلٍ. وهداية تشريعية تختصّ بالإنسان، وهي إرشادات الأنبياء وتعاليمهم الإلهية.
ما هو الصراط المستقيم؟
كلمة الصراط التي تكرّرت في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرّة تعني الطريق السويّ الواضح والواسع. في حياة البشر توجد طرق عدّة، وعلى الإنسان أن يختار إحدى هذه الطرق، فهناك طريق هوس النفس، وطريق أهواء الناس، وطريق الطاغوت، وطريق الآباء والأجداد التي يحكمها التعصّب القومي والعرقي، وطريق وساوس الشيطان، وهناك طرق أخرى لم تُجرّب، وهناك طريق الله تعالى وطريق أوليائه، ومن الطبيعيّ أن يختار الإنسان الذي يعتقد بالله سبحانه ويؤمن به طريق الله عزّ وجلّ وطريق أوليائه، وينحرف عن الطرق الأخرى، لأنّ هذا الطريق يمتاز بميّزات ليست موجودة في غيره من الطرق والسبل:
- هو الخطّ المستقيم الأوحد الذي يُشكِّل أقصر طريق بين نقطتين، لذلك فهو أقرب الطرق للوصول إلى المقصد.
- هو الخطّ الإلهي الثابت، خلافًا لبقية الطرق التي تتغيّر وتتبدّل تبعًا لأهواء النفس.
- هو الطريق المستقيم وهو طريق واحد لا أكثر، لأنّه لا يوجد بين نقطتين أكثر من خطّ مستقيمٍ واحدٍ، أمّا الطرق الأخرى فهي متعدِّدة.
- هو الطريق الآمن من كلّ خطر، خلافًا للطرق الأخرى التي يتعرّض فيها الإنسان إلى المخاطر والمهالك والسقوط.
- هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى المقصد، أي إلى رضا الله تعالى، فلا خسران، ولا انكسار فيه.
- الطريق المستقيم هو طريق الله سبحانه: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾45.
- الطريق المستقيم هو طريق الأنبياء: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾46.
- الطريق المستقيم هو طريق العبودية لله تعالى: ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾47.
- الطريق المستقيم هو التوكّل والاعتصام بالله عزّ شأنه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾48.
من هذا المنطلق، يجب على الإنسان تفويض أمره إلى الله تعالى، والاعتماد عليه، وطلب العون منه، سواء في اختيار الطريق أو متابعة السير فيه، ليثبت قدمه على الصراط المستقيم، فلا ينحرف عنه، تمامًا كالمصباح الكهربائي الذي يستمدّ نوره بصورةٍ دائمةٍ ومستمرّة من الطاقة التي يولّدها المصدر الأساس للنور، "مولِّد الكهرباء"، فلو انقطعت الطاقة انطفأ نور المصباح. لذلك، نجد أنّ الأنبياء والأئمة أيضًا- وليس فقط البشر العاديّون- يطلبون في صلواتهم الثبات على الصراط المستقيم. ليس هذا فحسب، بل على الإنسان أن يطلب من المولى تعالى أن يهديه ويثبته على الصراط المستقيم في جميع أموره، وليس في الصلاة فقط، في العمل، وفي الزواج، وفي اختيار الصديق، وفي التحصيل العلمي، وفي كل آن وزمان. فكم من إنسان يملك في الفكر عقائد حقّة
وصحيحة، لكنّه في العمل يُخطىء وتزلّ قدمه فيسقط، والعكس صحيح.
- الطريق المستقيم هو الاعتدال والوسطيّة. يقول مولى الموحّدين عليّ عليه السلام: "اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادّة"49. فالطريق المستقيم يعني تجنُّب أيّ نوع من الإفراط والتفريط، ليس إنكار الحقّ ولا الغلوّ في الحق، لا جبر ولا تفويض، لا الفرديّة ولا الذوبان في الجماعة وخسران الشخصيّة الخاصّة، لا نظري فقط ولا عملي فقط، لا التعلّق بالدنيا ولا الرهبنة، لا الغفلة عن الحقّ ولا الغفلة عن الخلق، لا عقل محض ولا عاطفة محض، لا تحريم الطيّبات ولا الغوص في الشهوات، لا بخل ولا إسراف، لا حسد ولا تملّق، لا خوف ولا تهوّر، لا ولا... بل سلوك طريق الوسطية والاعتدال، سواء في العقائد أو الأفكار أو العمل أو السلوك.
في السير على الصراط المستقيم يجب طلب المدد والعون من الله سبحانه دائمًا، لأنّ الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف، والإنسان معرَّض للسقوط في كلّ لحظة. إنّ من يعبر الصراط يوم القيامة هو الشخص الذي لم ينحرف عن الصراط المستقيم في الدنيا، سواء الانحرافات الفكرية والعملية والأخلاقية. ورد عن أبي عبد الله أنّ الصراط: "هو الطريق إلى معرفة الله عزّ وجلّ. وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردى في نار جهنم"50.
وجاء في الحديث عن أئمة الهدى: "والله نحن الصراط المستقيم"51، فأهل البيت هم المثال والنموذج الواقعيّ والعملي للطريق المستقيم، هم الأسوة والقدوة في المسير في هذا الطريق، وهم القادة والسادة الذين أوجب الله طاعتهم. فمدرسة أهل البيت مدرسة الاعتدال، والأئمة عليهم السلام يوصوننا دائمًا بالاعتدال والوسطية، في جميع الشؤون الحياتية والأحوال المعيشية، في العمل والسلوك والعلم، في الانتقاد والإنفاق وإظهار العلاقة والمحبّة وغير ذلك. وقد وردت هذه الوصايا في باب "الاقتصاد في العبادات" في كتاب أصول الكافي.
هذه هي مدرسة أئمة الهدى، وهذا هو الطريق المستقيم، لكن أن يقول قائل بالجبر ثم ينسب جميع أفعاله إلى الله تعالى، وكأنّ الإنسان مسلوب الاختيار والإرادة في تعيين مصيره وليس له أيّ تأثير، وآخر يؤمن بالتفويض فيعدّ نفسه فعّالًا لما يشاء، بينما يرى يد الله مغلولة لا حول له ولا مشيئة، وواحد يضع القادة الإلهيّين في مستوى البشر العاديّين، وآخر يرفعهم إلى حدّ الربوبية والتألّه! وشخصٌ آخر يرى أنّ التوسّل بأولياء الله عليه السلام وقراءة الزيارة شركًا بالله، وآخر يتوسّل حتّى بالشجرة والحجر! واحد لا يتحرّج من خروج زوجته من دون حجاب شبه عارية تعرض جسدها على الناس، وآخر من شدّة الغيرة يقفل باب داره على زوجته فلا يأذن لها بالخروج!... كلّ ذلك انحراف عن الصراط المستقيم، صراط الله القويم، بينما يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾52. ويقول عزّ وجلّ في موضع آخر: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً﴾53.
في ما يلي نماذج من الآيات والروايات التي تؤكّد على جانب الاعتدال، وتنهى عن الإفراط والتفريط:
قال تعالى: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُو﴾54. الاعتدال في الطعام والشراب.
﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورً﴾55.
التأكيد على الإنفاق باعتدال.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ... قَوَامً﴾56. لا بخل ولا إسراف في الإنفاق، هؤلاء هم المؤمنون.
﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيل﴾57. الصلاة بصوت معتدل.
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾58. فالمؤمنون يتّصفون بالدفع والجذب، أشدّاء على الكفّار "دفع"، رحماء على المؤمنين "جذب".
﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾59. ارتباط مع الخالق، وارتباط مع المخلوق.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾60. الإيمان والاعتقاد القلبي ضروري، كذلك العمل الصالح والسلوك الحسن.
يقول تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾61. طاعة الوالدِّين ضرورية، لكن إذا منعاك عن سبيل الله وأمراك بالشرك، ﴿فَلَا تُطِعْهُمَ﴾62. الطاعة هنا غير جائزة.
لا تمنعك الصداقة ولا القربة عن قول الحقّ وبيانه: ﴿شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾63. ولا تُبعدك العداوة والخصام عن سلوك العدل: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُو﴾64.
نقرأ في سيرة الإمام الحسين في ليلة العاشر من محرّم، أنّ الإمام عليه السلام كان يُناجي الله ويشحذ سيفه للحرب.
في الحج في يوم عرفة يبتهل الحجّاج إلى الله تعالى ويدعونه، لكن يوم العيد لا بدّ من الأضحية وإراقة الدم على مذبح الطاعة لله عزّ وجلّ ولإطعام القانع والمعترّ.
في ختام هذا البحث يجب القول إنّ الإسلام ليس دينًا ذا بعدٍ واحدٍ، بحيث يلزم التوجّه إلى جانبٍ واحدٍ وترك الجوانب الأخرى ونسيانها، بل يجب التوجُّه إلى جميع أبعاد وجود الإنسان في حدود الاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط.
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين:
في هذه الآية يطلب المؤمنون المصلّون من الله تعالى الهداية إلى الطريق المستقيم، وهو طريق الذين أنعم الله عليهم بهدايته من الأنبياء والأولياء والصالحين، والله تعالى في الآية 69 من سورة النساء، وفي الآية 58 من سورة مريم يشير إلى هذه المجموعة التي أنعم عليها بالهداية، فيُبيّن لنا من هم وما هي صفاتهم. ففي سورة النساء آية 69 يقول عزّ شأنه: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقً﴾، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم: "النبيون والصِّديقون والشهداء والصالحون". فالمصلّي يقرأ في كلّ صلاة في سورة الحمد ويطلب من الله تعالى أن يجعله في خطّ هذه المجموعات الأربع: خطّ الأنبياء، وخطّ الصِّديقين، وخطّ الشهداء، وخطّ الصالحين، وهذا الطلب والرجاء بالسير على خطى هؤلاء الأنقياء الأتقياء يُجنّب الإنسان خطر الانحراف، ويمنعه من الضلال، ويبقي ذكر هؤلاء الأتقياء حيًّا في ذهن المصلّي، فينهض بمسؤوليته ويؤدّي رسالته في خطّ مستقيم.
من هم المغضوب عليهم، ومن هم الضالّين؟
يُبيّن لنا القرآن الكريم نماذج (أفرادًا وجماعات) ويُعرّفهم بعنوان مغضوب عليهم، يحكي عن أفراد أمثال: فرعون وقارون وأبي لهب، وأقوام أمثال: قوم عاد وثمود وبني إسرائيل.
ونحن في كلّ صلاة ندعو الله ونطلب منه أن لا نكون في الاعتقاد والأخلاق والعمل أمثال هؤلاء الأفراد والجماعات، من الذين غضب الله عليهم، واستحقّوا الغضب والعذاب الإلهي.
يحكي المولى تعالى قصّة بني إسرائيل وحياتهم في القرآن بصورة مفصّلة، ففي الوقت الذي كانوا فيه مفضَّلين على جميع الناس في عصرهم، قال تعالى: ﴿فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾65، لكن بعد ذلك عندما انحرفوا وضلّوا وسلكوا طريقًا استحقّوا فيه غضب الله تعالى وقهره وعذابه، قال سبحانه: ﴿وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ﴾66. هذا التعبير والبيان بسبب تغيير سلوكهم وانحرافهم عن الصراط، فبعد هذا التفضيل انحرفوا عن جادّة الصواب، فحرّف علماؤهم تعاليم التوراة السماوية: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾67، وأخذ تُجَّارهم وأغنياؤهم بالربا وأكل الحرام ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَ﴾68، أمّا عامة الناس فقد وهنوا وجبنوا وأعرضوا عن الجهاد والقتال مع موسى عليه السلام، فقالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾69. هذه الانحرافات الفكرية والعملية كانت سبباً في أن يبتليهم الله تعالى، فيُسقطهم من أوج العزّة إلى قعر الذلّة.
لذلك، نحن في كلّ صلاة نطلب من المولى عزّ وجلّ أن لا نكون من أهل تحريف كتاب الله، ولا من أهل أكل الربا والحرام، ولا من أهل الفرار من الجهاد والقتال في سبيله، كذلك نطلب منه أن لا نكون من أهل الضلال التائهين، الذين يميلون مع كلّ ريح، ومن غير هدف، فيضلّون في معرفة الحقّ. إنّ الضالّين ليسوا أمثال: ﴿الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾، فهم ليسوا في خط الأنبياء والصالحين، ولا هم أمثال: ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ الذين يصدّون عن سبيل الله، ويجهدون في العناد ومعاداة الحق، ويكنّون العداء للإسلام، بل هم أشخاص ضلّوا في طريق معرفة الحق، غير مبالين، وطلبوا الرفاه في العيش، مثلهم كمثل الأنعام، همّهم بطونهم وشهواتهم، لا يتألّمون لحق ولا يتنكّرون لباطل، فلا فرق لديهم من يكون الحاكم، الأنبياء أو الطواغيت، همّهم رفاهية العيش، والحياة الرغيدة، والراحة المادّية، لا فرق عندهم من يكون القائد والحاكم، هؤلاء هم الضالّون الذين لم يختاروا هدفًا محدّداً ولا طريقاً واضحاً.
على أنّ هذه الآية تعدّ مصداقًا كاملاً للتولّي والتبرّي، فالمؤمنون المصلّون يظهرون - في نهاية سورة الحمد - العشق والعلاقة والولاية للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ويتبرؤون من المغضوب عليهم والضالين المنحرفين، وهذا الإظهار للتبرّي والنفور من المغضوب عليهم والضالّين في كلّ صلاة، هو الذي يبني المجتمع الإسلامي مجتمعًا مقاومًا مواجهًا لحكم هؤلاء، فالمولى تعالى يوصينا جميعاً: ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾70.
* شرح الصلاة
1- العدد (7): عدد السماوات، أيام الأسبوع، عدد أشواط الطواف، السعي بين الصفا والمروة، وعدد الحصى التي يرجم بها الشيطان.
2- انظر: تفسير نور الثقلين، ج1، ص4.
3- تفسير نور الثقلين، مقدمة سورة الحمد.
4- سورة هود: الآية 41.
5- سورة النمل: الآية 30.
6- كنز العمال، ج10، 312.
7- انظر: تفسير البرهان، ج1، ص23.
8- انظر: تفسير نور الثقلين، ج 1، تفسير سورة الحمد.
9- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 233.
10- تفسير نور الثقلين، ج 1، تفسير سورة الحمد، ص 9.
11- تفسير نور الثقلين، ج 1، تفسير سورة الحمد، ص 10.
12- مسند أحمد، ج 3، ص 177، وج 4، ص 85.
13- ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ سورة القصص: الآية 88.
14- تفسير نمونه، ج 7، ص 27.
15- شعر فارسي.
16- سورة الشعراء: الآية 23.
17- سورة الأنعام: الآية 64.
18- تفسير سورة الثقلين، ج1، ص 17.
19- سورة طه: الآية 50.
20- سورة التين: الآية 4.
21- سورة الإسراء: الآية 20.
22- سورة الأعراف: الآية 54.
23- سورة يونس: الآية 10.
24- انظر: الكافي، وتوحيد الصدوق، ومعاني الأخبار، والأمثل، ج 1، ص 32.
25- سورة الأعراف: الآية 151.
26- سورة الأنبياء: الآية 107.
27- سورة الرحمن: الآيتان 1 - 2.
28- سورة آل عمران: الآية 26.
29- سورة المؤمن: الآية 16.
30- سورة آل عمران: الآية 19.
31- سورة الزمر: الآية 3.
32- سورة الذاريات: الآية 12.
33- سورة الإنفطار: الآية 18- 19.
34- سورة الشعراء: الآية 88.
35- سورة الممتحنة: الآية 3.
36- سورة الحجر: الآيتان 49- 50.
37- سورة غافر: الآية 3.
38- سورة النساء: الآية 80.
39- سورة الأعراف: الآية 43.
40- سورة المائدة: الآية 2.
41- بحار الأنوار، ج 90، ص 325.
42- سورة المائدة: الآية 18.
43- سورة الانشقاق: الآية 6.
44- سورة محمد: الآية 17.
45- سورة هود: الآية 56.
46- سورة يس: الآيتان 3- 4.
47- سورة يس: الآية 61.
48- سورة آل عمران: الآية 101.
49- بحار الأنوار، ج 87، ص 3.
50- تفسير نور الثقلين، ج1، ص 26.
51- تفسير نور الثقلين، ج1، ص 26.
52- سورة الأنعام: الآية 161.
53- سورة البقرة: الآية 143.
54- سورة الأعراف: الآية 31.
55- سورة الإسراء: الآية 29.
56- سورة الفرقان: الآية 67.
57- سورة الإسراء: الآية 110.
58- سورة الفتح: الآية 29.
59- سورة البقرة: الآية 43.
60- سورة البقرة: الآية 82.
61- سورة البقرة: الآية 83.
62- سورة العنكبوت: الآية 8.
63- سورة النساء: الآية 135.
64- سورة المائدة: الآية 8.
65- سورة البقرة: الآية 47.
66- سورة البقرة: الآية 61.
67- سورة المائدة: الآية 13.
68- سورة النساء: الآية 161.
69- سورة المائدة: الآية 24.
70- سورة الممتحنة: الآية 13.