الصلاة والتربية
لا شكّ في أنّ الصلاة هي ارتباط روحيّ ومعنويّ، والهدف منها هو ذكر الله تعالى، غير أنّ الإسلام أراد أن يُصقل هذه الروح في قالب سلسلة من البرامج التربوية، لذلك جعل للصلاة شروطًا كثيرةً، وهي تنقسم إلى شروط صحة، وشروط قبول، وشروط كمال. فمن شروط صحة الصلاة مثلاً، طهارة البدن واللباس، والتوجّه نحو القبلة، والقراءة الصحيحة، وإباحة مكان المصلّي ولباسه، وهذه الأمور تتعلّق ببدن الإنسان وليس بروحه في حالة الصلاة، لكنّ الإسلام جعل عبادة الصلاة في هذا اللباس ليعلّم المسلمين دروس النظافة والطهارة والاستقلال واحترام حقوق الآخرين.
ومن شروط قبول الصلاة، التوجّه وحضور القلب، وقبول قيادة الإمام المعصوم وتولّيه، وأداء الواجبات المالية كالخمس والزكاة. أمّا أداء الصلاة في أوّل وقتها، والحضور في المسجد، والمشاركة في الجماعة، واللباس النظيف والتعطُّر والتسوّك، ورعاية النظم في صفوف الجماعة، وأمثال ذلك، فهي تعدّ من شروط الكمال، فإذا تأمّلنا هذه الأنواع الثلاثة من الشروط ودقّقنا النظر فيها، نجد أنّ كلّ قسمٍ منها له دوره الفاعل في تربية الإنسان ورقيّه الروحيّ.
عندما ننظر إلى القرآن نجده يقول: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾. فالإسلام يريد أن يُفهِم المجتمع الإسلامي أنّ وجهته واحدة، ويُعلّمه كيف يتوحّد ويتّحد ويتضامن، لذلك أمر جميع المسلمين أن يتوجّهوا نحو جهة واحدة هي الكعبة الشريفة ويستقبلوها في صلاتهم. لكن لماذا الكعبة دون غيرها من الأماكن أو الأبنية؟ الجواب: لأنّ الكعبة هي أوّل موضع وضع للناس للعبادة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكً﴾. من جهة ثانية، من تولّى تشييد هذا البناء وترميمه وإعادة إعماره هم الأنبياء واحدًا بعد آخر.
من هذا المنطلق، فإنّ الوقوف والتوجّه نحو الكعبة هو نوع من الاتصال بالتاريخ، والوحدة والتوحّد في مدرسة الأنبياء عبر الزمان. أضف إلى ذلك، إنّ القبلة (الكعبة) رمز الاستقلال (استقلال المؤمنين)، لأنّ اليهود والنصارى كانوا يُعيّرون المسلمين بأنّهم يتوجّهون إلى قبلتهم (بيت المقدس)، فكانوا يقولون للمسلمين: أنتم تصلّون باتجاه قبلتنا، وليس لكم أيّ استقلالية. والقرآن بيّن هذا المطلب بصراحة إذ يقول: ﴿فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، وبذلك قطع الطريق على اليهود والمشركين، وأخرس ألسنتهم. منتهى القول: إنّ القبلة (الكعبة) هي رمز الاستقلال والوحدة، وهذه دروس الصلاة التربوية.
حضور الأرواح: التنويم المغناطيسيّ وإحضار الأرواح من الأبحاث الرائجة اليوم في الأوساط والمجتمعات العلمية في العالم، لكنّنا لا نهدف إلى البحث في هذا الموضوع. هدفنا هو إحضار الروح الفارّة والشاردة، لتتوجّه إلى الله تعالى بواسطة الصلاة، أن نعيد هذا التلميذ الفارّ إلى صفّه، وأن نُرجع العبد الآبق إلى حضرة مولاه، فرجوع الروح إلى بارئها ومثولها بين يديه تعالى، من بركات الصلاة.
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة الشاكين، وهو في مقام الشكوى إلى الله تعالى على نفسه: "إلهي إليك أشكو نفسًا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة... ميّالة إلى اللهو واللعب، مملوءة بالغفلة والسهو، تُسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة". إنّ النفس أشبه بالطفل اللعوب الذي يميل دائمًا إلى اللهو واللعب، فإذا لم يُراقبه والده أفلت من يده، ومال إلى كلّ مكان يطلب اللعب، فهو في ذلك معرّض دائماً للخطر. لذلك، فإنّ أفضل طريق لضبط هذه النفس المتمرّدة ومراقبتها وجلبها إلى الطريق القويم، أن يُحضرها الإنسان عدّة مرّات في اليوم، لتكون في محضر الله تعالى، فيزيل غفلتها، لتنجو من الغرق في مستنقعات الدنيا ومنزلقاتها.