آداب الركوع وأسراره
تمهيد
قد ورد في معنى الرّكوع أنّه تعبيرٌ عن تسليم الرّأس لله تعالى، كما يكون حال من يقدّم ليقطع رأسه. ومن معاني تقديم الرأس أيضًا تقديم مركز القرار. والرأس هو أهمّ أجزاء البدن، ولهذا فإنّ تقديمه يعبّر عن تقديم أهمّ ما في النّفس عند تعاملها مع عالم الطبيعة.
يتعلّم المصلّي بهذه الحركة أن يكون مستعدًّا للتضحية ببدنه وبذل مهجته من أجل الله وفي سبيله.
ويدرك أصحاب الركوع في توجّهاتهم القلبيّة أسرارًا عظيمة تجعل الرّكوع عندهم حلوًا عذبًا مؤنسًا لا يطيقون الخروج منه.
ولهذا أفاض الله على أعظم الراكعين ذكرًا من عنده ليس له مثيل.
فإلى ماذا يرمز الركوع في الصلاة؟ وما هي الآداب المعنوية التي تساعدنا على التحقّق بمعانيه؟
معنى التكبير قبل الرّكوع
للركوع بداية أو تهيئة، وأعظم تهيئة هي التكبير الذي هو عبارة عن إعلان العجز عن الإحاطة بصفات الله تعالى. وهنا يذكر الإمام الخميني بعض آداب هذا التكبير الركوعي، فيقول قدس سره: "والظاهر أنّ هذا التكبير من متعلّقات الرّكوع، ولأجل تهيّؤ المصلّي للدّخول إلى منزل الرّكوع"1.
وتكبير الرّكوع متقوّمٌ برفع اليدين، وبذكر الله أكبر.
آداب التكبير قبل الركوع
"وأدبه أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحقّ وجلاله وعزّة الربوبيّة وسلطنتها ويجعل ضعف العبوديّة وعجزها وفقرها وذلّها نصب عينه.
وفي هذا الحال يكبّر الحقّ تعالى عن التوصيف بمقدار معرفته بعزّ الربوبية وذلّ العبودية"2.
فها هو المصلي يستعدّ للركوع الذي هو مقام عظيم عند الله يعترف فيه أولياؤه بأنّ لا كامل أو كمال في الوجود إلا الله تعالى. وإذا كان المصلّي غافلًا عن هذه الحقيقة وينسب الكمال إلى المخلوقات ويراها مستقلّة في كمالاتها، ويرى نفسه عالمًا وأنّ علمه قد تحقّق بذكائه وسعيه، فلن يكون ركوعه صادقًا، ولهذا أُمر بالتّكبير من أجل الاعتراف بأنّ الله أكبر من وصفه وأكبر ممّا يحمله في نفسه. ولهذا يقول الإمام قدس سره: "ويلزم أن يكون توصيف العبد السالك للحقّ تعالى وتسبيحه وتقديسه لمحض طاعة الأمر، ولأنّ الحقّ تعالى أذن له في الوصف والعبادة. وإلا فليس له أن يتجاسر على التلفّظ بالتوصيف والتعظيم في المحضر الربوبيّ، وهو عبدٌ ضعيف، وفي الحقيقة لا شيء. وما لديه فهو أيضًا من المعبود العظيم الشأن.
وفي حين يقول مثل علي بن الحسينعليه السلام بلسانه الولائيّ الأحلى الذي هو لسان الله: "أفبلساني هذا الكالّ أشكرك؟"3. فماذا يتأتّى من بعوضة ضئيلة؟"4.
معنى رفع اليدين أثناء التكبير
بالنسبة لمعنى رفع اليدين هذا يقول الإمام الخميني قدس سره:
"ولعلّ رفع اليدين بهذه الكيفية (أثناء التكبير) هو:
1- ترك لمقام القيام.
2- وترك الوقوف عند ذاك الحدّ.
3- وإشارة إلى عدم التزوّد من منزل القيام"5.
فأمّا ترك القيام فهو واضح، وأمّا ترك الوقوف عند ذاك الحدّ، لأنّ العبد ما لم يتحقّق بمقام التوحيد الذاتيّ فلا يكون قد أدرك من التوحيد شيئًا، لأنّ التوحيدين الآخرين ليسا سوى تجلٍّ للتوحيد الذاتي. وإنّ الصفات الأفعال كلّها ترجع إلى الوجود، حيث إنّ الوجود منبع كلّ شرف، ولا كمال إلا بالوجود. ولا فعل ولا تأثير إلا بالكمال الوجودي.
وأمّا الإشارة إلى عدم التزوّد، فذلك لأنّ أولياء الله تعالى لا يرون لعملهم قيمة مهما بلغ في جنب الله تعالى، لأنّ العبادة للمعبود، ولا يمكن لعابد أن يدرك حقّ المعبود عزّ وجل مهما جهد.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "والتكبير إشارة إلى التعظيم والتكبير عن التوصيفات التي صدرت في منزل القيام.
وعند أهل المعرفة حيث إنّ الركوع منزل توحيد الصفات فتكبير الركوع تكبير عن هذا التوحيد، ورفع اليد إشارة إلى رفض صفات الخلق"6.
معنى ذكر الركوع
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وليُعلم أنّ الركوع مشتمل على تسبيح الربّ جلّ وعلا وتعظيمه وتحميده.
فالتسبيح تنزيه عن التّوصيف وتقديس عن التّعريف..
وإنّ التعظيم والتحميد خروج عن حدّي التشبيه والتعطيل، لأنّ التحميد يفيد الظهور في المرائي الخلقية والتعظيم عرض سلب التحديد.
فهو الظاهر وليس في العالم أظهر منه، وننفي عنه التلبّس بلباس التعيّنات الخلقية"7.
وقوله قدس سره أنّ التحميد يفيد الظهور في المرائي الخلقية أي في مرائي الخلق لأنّ الخلق هم مرآة الحقّ تعالى. ولكن نظرًا لتقيّد مرائيهم ومحدوديتها، فيمكن أن يحدّوا من ظهور كمالات الحقّ، لهذا وجب في عين شهود الكمالات في الخلق تعظيمُ الحقّ تعالى عنها وتنزيهُه منها.
وقول العابد الحمد إشارة إلى شهوده للكمالات وللمحامد في الخلق، ولكي يخرج من الاحتجاب بقيود التعيّنات الخلقيّة، لزم أن ينزّه الله عن المحدودية ويعظّمه.
رفع الرأس من الرّكوع
ولأنّ تمام الرّكوع برفع الرأس منه، ولأنّ الرّكوع ليس نهاية الصّلاة ولا غاية التوحيدات، كان لا بدّ أن يُستكمل برفع الرأس، وهنا يقول الإمام قدس سره: "وسرّه هو الرجوع عن الوقوف في الكثرات الأسمائية، كما قال عليه السلام: "وكمال التوحيد نفي الصفات عنه"8، لأنّ العبد السّالك بعدما حصلت له حالة الصحو من الفناء الأسمائي، يشاهد قصوره وتقصيره، وذلك لأنّ مبدأ الخطيئة الآدمية (التي على ذرّيته أن تكفّر عنها) هو التوجّه إلى الكثرات الأسمائية التي هي باطن الشجرة"9.
لأنّ الركوع في حقيقته مقام الفناء في الصّفات، أي فناء العبد عن صفاته وعن شهوده لصفات الحقّ تعالى، فمن الممكن أن يستغرق في صفات الله تعالى على نحو الكثرة، ولا يشهد المقام الأعلى من التوحيد الصفاتي الذي هو اجتماع كل الصفات في عين الذات. وهذا الاستغراق يُسمّى بالكثرة الأسمائية، وهو بحدّ ذاته خطيئة أو ذنب، لأنّه حاصل من بقاء شيء من الإنيّة، ولا بدّ للعبد من الخروج منه، وهو يحصل برفع الرأس من الركوع.
ولهذه الحقيقة أدب ينبغي مراعاته، وهنا يقول الإمام قدس سره: "فإذا عرف العبد، وهو من الذريّة، خطيئته وعرف خطيئة آدم وهو الأصل، فيدرك مقام تذلّله ونقصانه، ويتهيّأ لرفع الخطيئة الذي يحصل بخفض الجناح في حضرة الكبرياء، ويقيم صلبه من هذا المقام ويرفع الكثرات الأسمائيّة بعد الركوع بالتكبير ويتوجّه إلى منزل الذلّة والمسكنة وأصل الترابية صفر اليد، وآدابه المهمّة هي:
إدراك عظم خطر المقام وإذاقته القلب بالتذكّر التام،
والمجاهدة في التوجّه إلى حضرة الذات، وترك التوجّه إلى النفس حتّى إلى مقام ذلّة نفسه"10.
لو كان الركوع غاية لكان نهاية الصّلاة وآخر أفعالها. لكنّه مرحلة متوسّطة وينبغي عبوره والخروج منه. وأوّل الخروج هو رفع الرأس منه والاستعداد للسجود الذي يمثّل آخر مراحل العروج. وأعظم معاني التهيّؤ للسّجود هو التوجّه إلى حضرة الذّات الذي هو معنى التوحيد الذاتيّ، ولا يحصل ذلك إلّا بترك النفس والنظر إليها ولو كانت في مقام التذلّل والفقر.
"واعلم أيّها العزيز، أنّ التذكّر التامّ لحضرة الحقّ والتوجّه المطلق بباطن القلب إلى تلك الذات المقدّسة موجب لفتح العين الباطنيّة للقلب الذي به يحصل لقاء الله وهو قرّة عين الأولياء ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾11"12.
الآداب العامّة للركوع
أوّل خطوة نحو التبرّؤ من التجاسر والخروج من التعدّي على الحدّ أن يرى السالك نفسه في ركوعه ممتثلًا أمر الله تعالى، عالمًا معترفًا بأنّه ليس أهل هذا المقام، وهنا يقول الإمام قدس سره: "فإذا أراد العبد السالك أن يرد منزل الركوع الخطر فلا بدّ له من التهيّؤ لذاك المقام وأن يرمي وراء ظهره توصيفه وتعظيمه وعبادته وسلوكه، ويرفع يده إلى حذاء الأذن ويرفع كفّيه الخاليتين باتّجاه القبلة ويرد منزل الرّكوع صفر اليدين وبقلبٍ مملوءٍ بالخوف والرجاء:
1- خوف التقصير من القيام بمقام العبودية.
2- والرجاء الواثق بمقام الحقّ المقدّس، حيث شرّفه وأذن له بالدخول إلى هذه المقامات التي هي لخلّص الأولياء وكمّل الأحبّاء"13.
شواهد من النصوص
"عن مصباح الشريعة، قال الصادق عليه السلام: "لا يركع عبد لله ركوعًا على الحقيقة إلّا زيّنه الله بنور بهائه وأظلّه في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه،
والركوع أوّل والسّجود ثانٍ، فمن أتى بمعنى الأوّل صلُح للثاني،
وفي الركوع أدب وفي السجود قرب، ومن لا يُحسن الأدب لا يصلح للقرب.
فاركع ركوع خاضع لله بقلبه متذلّل وجِلٍ تحت سلطانه، خافض لله جوارحه خفض خائف حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين.
يُحْكَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، كَانَ يَسْهَرُ اللَّيْلَ إِلَى الْفَجْرِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا هُوَ أَصْبَحَ يَزْفِرُ، وَقَالَ: آهٍ، سَبَقَ الْمُخْلِصُونَ وَقُطِعَ بِنَا، وَاسْتَوْفِ رُكُوعَكَ بِاسْتِوَاءِ ظَهْرِكَ وَانْحَطَّ عَنْ هِمَّتِكَ فِي الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ إِلَّا بِعَوْنِهِ وَفِرِّ بِالْقَلْبِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَخَدَائِعِهِ وَمَكَايِدِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ عِبَادَهُ بِقَدْرِ تَوَاضُعِهِمْ لَهُ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى أُصُولِ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ بِقَدْرِ اطِّلَاعِ عَظَمَتِهِ عَلَى سَرَائِرِهِمْ"14"15.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وفي هذا الحديث الشريف إشارات وبشارات وآداب ووظائف، كما إنّ التزيّن بنور بهاء الله والتظلّل بظلّ كبرياء الله، والتكسّي بكسوة أصفياء الله هي بشارات:
1- الوصول إلى مقام التعلم الأسمائي: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَ﴾16،
2- والتحقّق بمقام الفناء الصّفاتي.
3- وحصول حالة الصّحو من ذلك المقام.
لأنّ تزيين الحقّ تعالى العبد بمقام نور البهاء هو تحقيق الله للعبد بمقام الأسماء الذي هو حقيقة التعليم الآدميّ.
ولأنّ إظلاله في ظلّ الكبرياء، وهو من الأسماء القهريّة، وتمكين الله للعبد في فنائها إفناء العبد عن نفسه، وبعد هذا المقام إكساؤه بكسوة الأصفياء وإبقاؤه بعد الإفناء.
ومن هنا يُعلم أنّ السجود فناء ذاتيّ، كما قال أهل المعرفة، لأنّ الركوع أوّل هذه المقامات، والسّجود ثانٍ. فليس هو إلّا مقام الفناء في الذات.
ويُعلم أيضًا أنّ القرب المطلق الذي يحصل في السجود لا يتيسّر إلا بحصول الركوع على الحقيقة، ومن أراد أن يصلح للثاني لا بدّ أن ينال القرب الركوعي وأدب الركوع.
ثمّ إنّه عليه السلام أشار بعد بيان لطائف الركوع والسجود وسرائرهما إلى آدابه القلبيّة للمتوسّطين، وهي أمور بعضها من الأمور العامّة ذكرناها في المقدّمات وبعضها خاص بالرّكوع، وحيث إنّا بيّنّا أكثر هذه الأمور أغمضنا النظر عن تفصيلها"17.
الزينة هي الكمال المضاف، ولا كمال يُضاف إلى الإنسان أعظم من الكمال المطلق. والكمال المطلق هو الذي يتجلّى في أسماء الله الحسنى. فإذا أراد الله لعبده الزينة الحقيقية زيّنه بزينة أسمائه. ولا يمكن للعبد أن يتمكّن في هذا المقام الأسنى ويستقرّ فيه مع بقاء الإنيّة ورؤية النفس. فإذا أراد الله تعالى لعبده هذا المقام جعله تحت ظلّ كبريائه، فيفنيه عن نفسه، لأنّه لا وجود لأحد في ظلّ الكبرياء. وهناك يصبح العبد جاهزًا ليكون مرآة كمال الحقّ، من نظر إليه من أهل القلوب لم يرَ إلّا الله تعالى.
* الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده)
1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 346.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 346.
3- الطوسي، مصباح المتهجد، ج2,ص591.
4- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 346.
5- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 347.
6- م.ن، ص 347.
7- م.ن، ص 349.
8- ابن بابويه، محمد بن علي، التوحيد، تحقيق وتصحيح هاشم الحسيني، قم، إيران، نشر جماعة المدرسين، 1398هـ.، ط 1، ص 57.
9- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 351.
10- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 351.
11- سورة العنكبوت، الآية 69.
12- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 351.
13- م.ن، ص 346.
14- الامام جعفر الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 89.
15- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 349 - 350.
16- سورة البقرة، الآية 31.
17- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 350 - 351.