مواقيت الصلاة
الفجر : 05:28
الشروق : 06:41
الظهر : 12:24
العصر : 15:38
المغرب : 18:24
العشاء : 19:15
منتصف الليل : 23:43
الإمساك : 05:20
X
X
الاعلان

ما هي العبادة؟

ما هي العبادة؟

ما هي العبادة؟

يقول المولى تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ1، فالعبادة هي الهدف الذي خلق الله الإنسانَ لأجله. والأعمال التي يؤدّيها الإنسان إذا كان فيها لله تعالى رضًا فهي عبادة، حتّى لو كانت عملًا يرجع نفعه إلى الفاعل نفسه، مثل: السعي في طلب الرزق، وتحصيل العلم، والزّواج، أو خدمة النّاس، أو غير ذلك من الأعمال التي يؤدّيها الإنسان لرفع حاجاته الشخصيّة أو الاجتماعيّة. من هنا، فإنّ أيّ عمل يُنجز بدافع مقدّس هو عملٌ عباديٌّ، وبتعبير القرآن الكريم: هو "صبغة الله"2.

فطرية العبادة:
تنقسم الأعمال التي يؤدّيها الإنسان بحسب الدوافع إلى أفعال تدفعنا العادة إلى القيام بها وأفعالٍ فطريّةٍ، فالأعمال المبنيّة على العادة يمكن أن تكون قيّمة كالأعمال الحسنة والجيدة، ويمكن أن لا تكون قيّمة كعادة التدخين مثلاً، أمّا الأعمال التي نؤدّيها بدافع الفطرة التي أودعها الله فينا فهي أعمالٌ قيّمةٌ دائمًا.

وما تتميّز به الفطرة عن العادة، عدم تأثير الزمان والمكان والجنس والعرق فيها، فكلّ إنسانٍ، من جهة أنّه إنسان، يجد نفسه مدفوعًا نحوها كحبّ الأبناء، إذ هو صفة موجودةٌ في الكائن البشريّ لا يختلف في هذه الصفة أهل بلدٍ عن بلدٍ آخر ولا عرق من الأعراق عن غيره، ولا أهل زمانٍ عن غيرهم من السابقين أو الآتين3. أما الأمور التي تتعلّق بشكل اللباس ونوعه، أو بالطعام وطريقة تناوله، فإنّها من باب العادة، ولأجل هذا هي تختلف بحسب الزمان والمكان، وما هو مقبول في منطقة قد لا يكون مقبولًا في أخرى، وما هو مقبول في عصر قد لا يكون مقبولًا في عصر آخر.

والعبادة أيضًا من الأمور الفطريّة، لذلك نرى أنّ أقدم الآثار والمباني البشرية، وأجملها، وأمتنها على الإطلاق، هي آثار تتعلّق بالدِّين، كالمعابد (حتّى لو كانت معابد للأصنام أو النار). إذًا أصل العبادة أمرٌ فطريٌّ، وأمّا تطبيق العبادة فقد يختلف بين الناس، ومن ذلك الاختلاف في المعبود، فمن الناس من يعبد الله عزّ وجلّ ومنهم من يعبد الخشب أو الحجر أو غيرهما من الأصنام والأوثان.

كما يختلف الناس في طريقة العبادة وأسلوبها إذ تبدأ بعض أساليب العبادة من الرقص وضرب الأرجل بالأرض (الدبكة مثلاً) إلى أن تصل إلى أرقى أشكالها كما في حالة الدعاء والمناجاة مع الله، وهذا بدوره له مستوياتٌ أرفعها شأنًا ما كان صادرًا عن أولياء الله وأنبيائه. وبناءً على أنّ العبادة أمرٌ فطريٌّ، نفهم أنّ هدف الأنبياء لم يكن نفخ روح العبادة في الإنسان، بل إصلاحها لجهة المعبود أو شكل العبادة.

ويؤكّد وجود روح العبادة في الإنسان عبر التاريخ ما تركته الأمم والشعوب الغابرة من آثار عمرانيّة تُسمّى معابد: كالكنائس والأديرة، ومعابد الهندوس، وكنس اليهود، ومساجد المسلمين، بل أخذت العبادة عند بعض الشعوب أو بعض الأشخاص أشكالًا مختلفة كتقديس الأعلام والأوطان والأبطال القوميّين، وحبّ الكمالات والقيم والمعنويّة، وغير ذلك ممّا كان الإنسان وما زال مستعدًّا للتضحية بروحه من أجله. كلّ هذه المظاهر تكشف عن وجود أمرٍ فطريٍّ في نفوس الناس يُعبّرون عنه بأشكالٍ صحيحة حينًا وخاطئة أحيانًا. وعلى حدّ تعبير الشاعر الإيرانيّ جلال الدِّين الرومي: "عندك من العواطف ما لا تستطيع التعبير عنه، كعواطف الطفل وميله إلى أمّه".

لقد خلق الله عزّ وجلّ لكلّ ميلٍ وغريزة وضَعَها في الإنسان وسيلةً لإشباعها، فمن خلق العطش والإحساس بالحاجة إلى الماء خلق هذا الأخير للإحساس بالارتواء. ومن أوجد الإحساس بالجوع خلق الطعام لرفع الجوع. والله الذي جعل في الإنسان بشكلٍ فطريٍّ الإحساس بالميل الجنسيّ خلق الجنس الآخر وشرّع الزواج من أجل تنظيم إشباع هذه الحاجة، والأمر نفسه يُقال عن حاسّة الشمّ وعليها يُقاس ما سواها.

والميل إلى الخلود وعشق الكمال وحبّ البقاء كلّها غرائز أودعها الله في الإنسان، وهي ميول لا يمكن إشباعها إلا عن طريق العبادة والعلاقة مع الموجود الخالد والكامل المطلق الذي لا نقص فيه وهو الله تعالى. والصلاة تعبير من تعبيرات العلاقة بهذا الموجود المقدّس ولجوء من الإنسان إلى التواصل مع منبع الوجود والخير كلّه.

أصل العبادة وجذورها:
من ذا الذي يعرف الله سبحانه بأوصافه وكمالاته اللامتناهية ولا يخضع لربوبيّته، ولا يسلّم لوجهه؟ يُبيّن لنا الله (عزّ وجلّ) في القرآن، من طريق القصص، والتاريخ، آياتِ قدرته وعظمته، مثلاً: وهب مريم ابنة عمران ولدًا من غير زوج، وفلق نهر النيل لموسى عليه السلام، فنجّاه وقومه وأغرق فرعون، ونصر أنبياءه المسالمين المجرّدين من السلاح في مقابل طواغيت عصورهم وفراعنة أزمنتهم، ومرّغ أنوف الجبابرة على الرغم ممّا كان لهم من سطوة وعدّة وعتاد. والله هو العزيز المقتدر الذي خلق الإنسان من تراب لا حياة فيه، ونقلنا من العدم إلى الوجود، وهو الذي بيده موتكم وحياتكم، وعزّكم وذلّكم. فمن هو العاقل الذي يُدرك ضعفه وعجزه وجهله وحدود قدراته، ويعي الأخطار والحوادث المتوقّعة وغير المتوقّعة التي قد تعصف به، ثم لا يشعر بالحاجة إلى قدرة تُنجيه، ولا يُسلّم ولا يخضع لهذه القدرة المطلقة التي لا حدود لها؟!!

ويُذكّرنا القرآن الكريم في أجمل صورة وبيان بضعف الإنسان، فيقول لنا في آيات عدّة منه، ويُذكّرنا ويُؤدّبنا بهذا الأدب، وهو أدب الالتفات إلى العجز والحاجة إلى الله:

1- ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ4.

2- ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ5.

3- ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ6.

4- ﴿لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ7.

5- ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ8.

6- ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتً9.

7- ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ10.

ويضاف إلى هذه الآيات غيرها من الآيات والنماذج التي تبلغ العشرات. وكلّها تهدف إلى توعية الإنسان وإيقاظه من غفلته، وتحطيم غروره الكاذب، وإعادته إلى فطرته، ألا وهي عبادة الخالق الواحد والتذلُّل إليه.

عمق العبادة:
قد تبدو العبادة بحسب الظاهر شكلًا من أشكال الخضوع للمعبود فحسب، غير أنّها في الواقع والجوهر أعمق من هذا الظاهر بدرجات. فالعبادة تنشأ وتنبعث من الروح، ومن المعرفة، ومن التوجّه إلى المعبود وتقديسه والثناء عليه، ومن التضرّع والالتجاء والاستعانة، وبعبارة عامّة شاملةٍ هي حالة تكشف عن الحبّ والعشق والتعلّق بكمالات المعبود.

وقد تبدو العبادة الصحيحة عملًا بسيطًا في الظاهر، ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ وراء هذا الظاهر البسيط معنًى أعمق فإذا لم تتوفّر مجموعة من المعاني والشروط في العبادة تكون ناقصةً غير منجزة بالشكل المطلوب. فالعبادة في واقعها تعني خلع القلب من المادّيات، وعروج الروح وتحليقها عاليًا، إلى حيث لا يبلغ ولا يصل النظر والسمع. وهي الممارسة التي تسمح للإنسان بأن يعبّر عن أعلى درجات الحبّ المكنون في نفسه، ففي العبادة يقف الإنسان بين يدي الله تعالى، ويُطلق لسانه في التعبير عن الحبّ والتقديس والحمد والشكر والتسليم والخضوع وغير ذلك من المعاني المرتبطة بالحبّ ولا يكون الحبّ الكامل إلا للموجود الكامل، ولا يكون الحبّ الذي لا حدود له إلا للموجود الذي لا يحدّه حدّ.

عدم الاكتراث بالعبادة:
رُوِي عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام في بعض خطبه: "فما خُلِقتُ ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها..." ثم يكمل عليه السلام فيقول: "قُرّت إذًا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية"11.

إذًا يصير الإنسان أشبه بالحيوان عندما يتحوّل الطعام والمأكل والملبس إلى أكبر همّه. وقد تطوّرت الحضارة المعاصرة، على المستوى التقنيّ والفنّيّ، واختراع الوسائل والآلات المتطوّرة، وسهّل ذلك الحياة، وجعلها أكثر راحة ورفاهًا، ولكن هل يؤمّن هذا التطوّر كلّه الكمال للإنسان؟! وهل ينحصر تكامل الإنسان في تكامل هذه الأبعاد من حياته؟! ولو كان الأمر بإشباع الحاجات المادّية والجسديّة للإنسان لكان الحيوان أكثر تقدّمًا وتطوّرًا لأنّه يحصل على جميع حاجاته وهو مربوط إلى معلفه، يُقدِّم له الإنسان ما يريد ويحصل على ما يشتهي دون جهدٍ أو تعبٍ... وفي الملبس لا يحتاج إلى خياطة، ولا إلى غسل أو تنظيف أو كيٍّ أو تبديل. أمّا في ما يتعلّق بالشهوة، فهو يُرضي نفسه من غير مشاكل ولا عناء... وعن السكن يمكن أن يُقال الأمر عينه فإنّ بعض الطيور تبني أعشاشها بطريقة تُدهش الإنسان نفسه.

لكن السؤال الهامّ: هل حقّق التطوّر التكنولوجيّ الرشد والكمال للإنسانية؟ هل انخفضت نسبة الفساد الفردي والاجتماعي؟ هل اقترنت هذه الراحة الجسديّة بالاطمئنان النفسيّ؟ الجواب عن هذه الأسئلة كلّها بالنفي، فإنّ الإنسان إذا لم يُسلّم قياده للقادة المعصومين لن يصل إلى ما يصبو إليه من غايات حقيقيّة. وما لم يتعلّق قلب الإنسان بمصدر الخير والاطمئنان أي الله تعالى، لن يكون له ما يريد.

ثبات مدار العبادة:
للكواكب والنجوم والأرض مدار ثابت في وقت واحد، فهي تتحرّك في ثابت على الرغم من تنوّع حركتها بين الحركة الموضعيّة والحركة الانتقاليّة. والعبادة بجميع صورها وأشكالها المختلفة تدور على مدار ثابت، ألا وهو رضا الله تعالى، حتى لو تغيّرت الظروف والأوضاع الزمانية والمكانية، والفردية والاجتماعية لنوع الحركة في هذا المدار. مثلاً: يُصلّي المسافر ركعتين بدلًا من أربع، والمرض قد يُغيّر شكل الصلاة، لكنّ الشكلين المذكورين أو غيرهما من الأشكال التي تأخذها هذه العبادة تُسمّى صلاة، وكلّها تدور في مدار ذكر الله سبحانه ورضاه والقيام بأوامره: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي12.

روحانيّة العبادة:
العبادة غذاء للرّوح، فكما أنّ أفضل الغذاء هو ما تنجذب إليه النفس ويحتاجه الجسد، فإنّ أفضل العبادة هي ما تنجذب إليه الروح، وهي العبادة المترافقة مع النشاط وحضور القلب، وكما أنّ المبالغة في الأكل أمر غير مرغوب، والمهمّ هو الغذاء النافع والمفيد، كذلك العبادة. لذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله الأنصاري: "إنّ هذا الدِّين لمتين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله"13. وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها"14.

الاعتدال في العبادة:
تبقى روحيّة العبادة في الإنسان حيّة ما دام يؤدّيها الإنسان باعتدال، لذلك نقرأ في الكتب أحاديث وروايات تحت عنوان: "باب الاقتصاد في العبادة". الجسم السليم هو الجسم الذي تتناسب أعضاؤه، فإذا كان أحد الأعضاء أكبر من غيره بحدود غير طبيعيّة فهذا يعني أنّ صاحبه ناقص الخلقة، والكلام عينه يُقال عن الأمور المعنوية أيضاً، فالإنسان يجب أن ينمو على المستوى الروحيّ بشكل متناسق ومتعادل. يُنقل أنّ جماعة من الصحابة اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا الودك15، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، وهمّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره (يقطع أعضاءه التناسليّة). فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال معلّمًا إيّاهم: "إنّي لم أؤمر بذلك". ثم قال: "إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإنّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن يرغب عن سنّتي، فليس منّي". ثم جمع الناس وخطب فيهم، وقال: "ما بال أقوام حرّموا النساء، والطعام، والطيب، والنوم، وشهوات الدنيا؟ أمّا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانًا، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم، ولا النساء، ولا اتخاذ الصوامع، وإنّ سياحة أمّتي الصوم، ورهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وحجّوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد: شدّدوا على أنفسهم، فشدّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم، في الديارات والصوامع"16.

ويُنقل عن الإمام الصادق عليه السلام قصّة ذلك الرجل المسيحيّ الذي أسلم، فجاءه جاره المسلم وأيقظه وقت السحر، وصَحِبه إلى المسجد، وقال له: صلِّ صلاة الليل قبل أن يطلع الفجر، فلمّا طلع الفجر قال له: صلّ صلاة الصبح، وبعد طلوع الشمس ادع بهذا الدعاء، حتى حان وقت الظهر، قال له: حان وقت صلاة الظهر، صلِّ الظهر واقرأ بعد ذلك القرآن، وهكذا بقي يُشغله بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن حتى رجع المسيحي إلى بيته متعبًا مرهقًا، بعد ذلك ارتدّ عن الإسلام، ولم يعد يذهب إلى المسجد... إنّ الإفراط في العبادة يجعل الناس تفرّ منها، فتُصبح العبادة ثقيلة على النفس والبدن.

يقول عبد الله بن عمرو - وكان من أنصار أمير المؤمنين عليه السلام - (ينقل الشهيد مرتضى مطهّري أنّه كان لعمرو بن العاص ولدان، أحدهما من محبّي عليّ عليه السلام وأنصاره، والآخر من أنصار معاوية)، يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد أُخبرت أنّك تقوم الليل وتصوم النهار" قلت: يا رسول الله نعم، قال: "فصم ، وأفطر، وصلّ، ونم، فإنّ لجسدك عليك حقًّا، وإنّ لزوجك عليك حقًّا، وإنّ بحسبك أن تصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام..."17.

وقد ورد في بعض الأخبار: "إنّ للقلوب إقبالًا وإدبارًا"18. فعندما تُقبِل الروح ويكون القلب مستعدًّا يجب الاستفادة والإقبال على العبادة، أمّا عندما لا تتوفّر مثل هذه الظروف ولا يجد الإنسان نفسه مقبلةً على العبادة، فلا يجب إجبارها طبعاً هذا في غير الفريضة - أو الضغط عليها حتّى لا يحصل عكس ما يريد الإنسان فتتحوّل العبادة إلى أمرٍ مبغوضٍ. ولقد جاء في الوصايا والأحاديث الإسلامية أنّ الوقت أربع ساعات... منها ساعة للراحة واللذّة في غير محرم، وذلك كي يستعيد الإنسان نشاطه ويساعده ذلك على صرف بقيّة وقته في الأمور المفيدة في الساعات الثلاث الباقية19.

وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أنّ الله عزّ وجلّ استخدم كلمة "اعتدوا" للتعبير عن فعل اليهود الذين كانوا ينهضون لصيد السمك يوم استراحتهم: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ20. إذًا، يجب على الإنسان أن لا يكرّه العبادة إلى نفسه وإلى عباد الله، ولا يؤدّي عباداته إلا وهو في حالة نشاط واستعداد كاملين.

الإدارة في العبادة:
الإدارة ليست فقط في المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا بل إنّ العبادة أيضاً بحاجة إلى إدارة، وبرنامج، وتنظيم، ففي أصول الإدارة توضع البرامج وخطط العمل ويتمّ اختيار القوّة العاملة، كذلك، لا بدّ من الانضباط والنظم والرقابة، مضافًا إلى ذلك كلّه التحفيز والتشجيع والمحاسبة. والعبادة تحتاج أيضًا إلى حسن إدارةٍ، لتتحقّق الأهداف المبتغاة منها، وتسهم في وصول الإنسان العابد إلى الرشد والكمال. إذا نظرنا إلى عبادة الصلاة، فإنّنا نجد خطّة معيّنة، وتنظيمًا واضحًا، فهي تبدأ بالتكبير، وتنتهي بالتسليم، وعدد الركعات والسجود فيها محدّد، وأوقات إقامتها معيّنة، وجهتها محدّدة: نحو القبلة، لكن الطرح أو الخطّة وحدها لا تكفي، فإنّ إقامة الصلاة بحاجة إلى اختيار إمام للجماعة جامع للشروط، وعلى المصلّين مراعاة الآداب والأخلاق والنظافة عند إقامة هذه الشعيرة، لذلك، يجب ترغيب الناس والمؤمنين بالصلاة، والمشاركة في المساجد، بالآداب والأخلاق والنظافة والنشاط، كذلك يجب مراعاة التنظيم في صفوف الجماعة خلف الإمام، ثم متابعته في الجماعة. بناءً عليه، فإنّ عبادة الصلاة تتطلّب إدارة كاملة لإقامتها على أفضل نحو.

العبادة دواء اللّيل والنّهار:
تفتح العبادة أبواب العلاقة مع الله في كلّ زمانٍ ومكانٍ، وفي كلّ الظروف، من غير ميعاد سابق ولا حاجة إلى توسيط أحدٍ، وبأيّ لغة يُتقنها الإنسان، وعلى الرغم من تحديد الشريعة أوقاتًا لبعض العبادات كالأدعية أو الصلوات، من قبيل: أوقات السحر، وغروب يوم الجمعة، أو بعد خطبة صلاة الجمعة، وعند نزول المطر، وفي ليالي القدر، على الرغم من هذا التحديد فإنّ العبادة لا تختصّ بهذه الأوقات فقط، بل هي في كلّ آنٍ وحالٍ. والعبادة في كلّ حال دواءٌ لداء الغفلة والنسيان21، هي دواء يمنح السكينة والهدوء والاطمئنان، ويُزيل القلق والاضطراب، ويثبّت القلوب وينفخ فيها روح الطمأنينة، يقول تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ22.

العبادة أصل طمأنينة القلوب:
في العالم كثير من الذين هم من: الطواغيت، وأصحاب رؤوس الأموال، والأغنياء الكبار، وأهل الفكر والعلم، وأرباب الصناعة والتكنولوجيا، لكن هل يكفي الاتّصاف بهذه الصفات أو أن يكون المرء من هؤلاء حتّى يكون مطمئنّ القلب مستقرّ النفس؟ ونحن نُقرّ بأنّ المجتمعات الغربيّة بلغت الغاية في التطوّر التقنيّ، ولكن هل هي تعيش حالة السكون والسكينة على المستوى الروحيّ؟ هل جلبت الصناعة والقدرات المالية والعسكرية والتقدُّم الصلحَ والسلامَ والطمأنينةَ والسكينةَ والعيش الهادئ للبشريّة؟ يبدو أن لا شيء ممّا تقدّم يولّد الطمأنينة في أعلى درجاتها سوى العبادة وطاعة المولى سبحانه فهما اللتان تمنحان أولياء الله حالة من الطمأنينة والسكون الروحي والنفسي، بحيث لا يشعرون مع العبادة والأنس بالعلاقة مع الله بأيّ قلق أو اضطّراب، في جميع الظروف التي يعيشونها. من هذا الباب أروي حادثتين من ذكريات الإمام الخميني قدس سره: عندما فرّ الشاه من إيران كان شاهبور بختيار العميل على رأس الحكومة والسلطة في إيران، حينها قرّر الإمام الخميني الرجوعَ إلى الوطن، بعد 15 سنة من الهجرة القسريّة والنفي. في الطائرة، وأثناء العودة سأله المراسل الصحفي، ماذا تشعر الآن؟ قال الإمام: لا أشعر بشيء خاصٍّ! وفي حين كان الملايين من عشّاق الإمام قلقين على حياته، كان الإمام في الطائرة منشغلاً بالعبادة والذكر وصلاة الليل بكلّ طمأنينة وسكون، كلّ هذا الاطمئنان سببه ذكر الله تعالى.

القصة الثانية ينقلها السيد أحمد ابن الإمام، وقد سمعتها منه شخصيًّا. يقول: "عندما فرّ الشاه من إيران، اجتمعت الصحافة والمراسلون بالعشرات أمام منزل الإمام الخميني في باريس، ومعهم العدسات والكاميرات يريدون نقل حديث الإمام إلى العالم كلّه، وقف الإمام على كرسيّ وقال بضعة كلمات ثم نظر إليّ (إلى أحمد الخميني). وسألني هل حان وقت الظهر، قلت له نعم لقد حان، عندها قطع الإمام كلامه مباشرة، ونزل من على الكرسي، وتوجّه إلى الصلاة، حار الجميع وضجّوا، وسألوا ما الخبر؟ قلت لهم: إنّ الإمام ملتزمٌ بإقامة الصلاة في أوّل أوقاتها...

هذا هو الإمام الخميني، ما فعله في باريس كان درسًا تعلّمه من إمامه الإمام الرضا عليه السلام، حين أتاه إمام الصابئة23 ورئيسهم، وكان رجلاً مغرورًا ومتعصّبًا، لم يُسلِم، ولم يقتنع من كلام الإمام ومحاوراته، حتى اختلط عليه الأمر في إحدى جلساته ومحاوراته مع الإمام، وانهدمت أفكاره فقال: "الآن لان قلبي". في تلك اللحظة ارتفع صوت الأذان، فنهض الإمام للصلاة، وترك محاورة الرجل، فأصرّ عليه من كان حاضرًا من محبّيه وأصحابه ليكمل حديثه ومحاورته لعدّة لحظات، علّ إمام الصابئة يؤمن، لكن جواب الإمام كان أنّ الصلاة في أوّل وقتها أهمّ، فإن كان أهلًا لقبول الحقّ وقد لانَ قلبه فلينتظر حتّى نقيم الصلاة ونعود إلى المناظرة والحوار. فلمّا رأى الرجل شدّة الإمام الرضا وصلابته وتعبّده وعشقه للحقّ، تعلّق بالإمام أكثر، فأسلم وحسُن إسلامه، وهذا الرجل كان اسمه عمران الصابئي.

وكان عمران الصابئي هذا من كبار فلاسفة عصر الإمام عليه السلام كما كان الزعيم الروحيّ لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيدًا وغموضًا... وأجاب عنها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ثامن حجج الله على عباده وأمنائه في أرضه... ولمّا رأى عمران الصابئي مبلغ الإمام عليه السلام من العلم، وأجوبته الحاسمة عن أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي إلى حلّها إلا أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: "أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحّدت، وأشهد أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم عبده المبعوث بالهدى، ودين الحقّ..." ثم خرّ ساجدًا لله تعالى وأسلم، وانبهر العلماء والمتكلِّمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقريّاته، وراحوا يُحدِّثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه...24

العبادة وتلقّي المدد واللطف الإلهيّ:
العبادة وسيلة من وسائل تلقّي الإمدادات والألطاف الإلهية. يقول المولى تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ25.

وقد ورد أنّ موسى عليه السلام بقي في جبل طور سيناء يتعبّد الله تعالى ويذكره ويناجيه مدّة أربعين يوماً وليلة، لتلقّي كتاب الوحي السماوي (التوراة). ونقرأ في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يتعبّد في غار حراء مدّة طويلة، ثم بعد ذلك تلقّى الوحي الإلهي، وبُعث رسولًا للعالمين. ونقرأ في الروايات والأخبار الإسلاميّة: "من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"26. إذًا، العبادة الخالصة هي جامعة، يتخرّج العبد منها بعد أربعين يومًا حكيمًا متألّهًا، يتلقّى الحكمة من النبع الإلهي، ويُعلِّمها للناس.

التأثير المتبادل بين الإيمان والعبادة:
كما أنّ الإيمان يحثّ الناس على العبادة، فإنّ العبادة أيضًا تؤثّر في تعميق الإيمان، تماماً كمثل الجذور التي تمنح أوراق الشجر الماء والغذاء، ثم تأتي الأوراق في المقابل لتنقل النور والحرارة إلى الجذور. من هنا، فإنّه كلّما تمّت العبادة بصورة أفضل وأكبر، فإنّ أنس الإنسان بمعبوده يُصبح أكثر.

فلسفة العبادة في القرآن:
يكشف القرآن الكريم عن أنّ روح الصلاة التي هي أهمّ العبادات، يكمن في أنّها ذكرٌ لله تعالى: ﴿الصَّلَاةَ لِذِكْرِي27 ويعدّ ذكر الله سبحانه أصل طمأنينة القلوب: ﴿بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ28 ونتيجة طمأنينة القلوب العروج إلى الملكوت: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ...29. وفي مواضع أخرى يستدلّ القرآن الكريم على وجوب العبادة ولزومها بأنّها شكل من أشكال الشكر لله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً30. ويقول في مورد آخر: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ31 ففي هذه الآيات وغيرها نجد أنّ الله يدعو الإنسان إلى العبادة بعد ذكر نعمةٍ أنعمها عليه. وتشير بعض الآيات إلى دور الصلاة التربوي: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ32.

وعلى أيّ حال يجب على المصلّي مراعاة عدد من الأحكام والأوامر والنواهي الشرعية والدِّينية، حتّى تسمو الصلاة التي يؤدّيها إلى درجة القبول والصحّة. على أنّ رعاية هذه الأحكام تبني الأسس القوية لتجنّب المعاصي والقبائح، والابتعاد عن المنكر، لأنّ من يرتدي اللباس الأبيض النظيف، فمن الطبيعي أن يتجنّب الجلوس في الأماكن الملوّثة والوسخة، ويبتعد عن النجاسات. ثم يعقّب القرآن الكريم بالتوصية بإقامة الصلاة بقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ33 والحسنات كثيرةٌ على رأسها الصلاة، وبناءً على أنّ الصلاة حسنةٌ تُذهب السيّئات يمكن أن نعدّها توبة عملية من الذنوب والمعاصي التي ارتكبها الإنسان من قبل. وفي هذه الآية الشريفة وعدٌ إلهيٌّ يُثير الأمل في نفوس العاصين بمحو ما اقترفوا من المعاصي والذنوب، إن اشتغل الإنسان في حاضره ومستقبله بالحسنات وهي كما تقدّم كلّ فعلٍ يؤدّيه الإنسان لوجه الله تعالى.

الصلاة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام:
ورد في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام أحاديث كثيرة، يتحدّث فيها الإمام عن الصلاة وذِكْر الله سبحانه. ولكثرة هذه الأحاديث تصدّى بعض العلماء لتأليف كتاب في هذا المجال بعنوان: "الصلاة في نهج البلاغة". ونحن هنا نتطرّق إلى بعض الجمل التي وردت عن الإمام عليّ عليه السلام في فلسفة الذكر، والصلاة من أهمّ مصاديقه العملية، يقول إمام الموحّدين: "إنّ الله جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتُبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة"34. نعم إنّ الصلاة تمنح الإنسان البصيرة والرؤية الواضحة، كما أنّ التقوى تمنح البصيرة والفرقان. ثم يذكر الإمام عليه السلام بركات الصلاة فيقول: "قد حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدّت لهم مقاعد الكرامات". وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام: "وإنّها لتحُتُّ الذنوب حتّ الورق، وتُطلقها إطلاق الربق"35.

نعم، إنّ الصلاة لتسقط الذنوب عن كاهل الإنسان كما تسقط أوراق الشجر، وتعتق رقبة العبد من حبل الذنوب. ولقد شبّهها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعين الماء تكون على باب بيت الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد، ولا مال36.

وفي الخطبة 196 من نهج البلاغة نقرأ قول الامام عليّ عليه السلام: "ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، يتعبّدهم بألوان المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجًا للتكبّر من قلوبهم، وإسكانًا للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابًا فتحاً إلى فضله، وأسبابًا ذلّلًا لعفوه..." إلى أن يقول: "وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، وإلصاق كرائم الجوارح تصاغراً"37.

إنّ الصلاة تمنح وجود الإنسان كلّه الطمأنينة والسكينة، وتجعل العيون والأبصار خاشعة خاضعة، وتلجم النفوس المتمرّدة، وتليّن القلوب القاسية، وتمحو التكبُّر والغرور: "إنْ أوحشتهم الوحشة آنسهم ذكرك"38. إنّ ذكر الله هو المؤنس المطمئن عند الاضطّراب والوحشة، لكن من الواضح، أنّ كل البشر لن يتمكّنوا من الوصول إلى هذه الدرجات، فيأنسوا بالصلاة، ويربحوا هذه التجارة العظيمة، نعم، هناك ثلّة فقط عشقوا الصلاة، وذابوا في محرابها، وذكروا الله حقّ ذكره، بحيث لا يستبدلون هذا العشق، وهذا الذكر، بالدنيا وما فيها.

آثار العبودية وبركاتها:
1- الإحساس بالعزّة والفخر: ورد في المناجاة عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي كفى بي عزًّا أن أكون لك عبدًا"39، فأيّ عزّ، وأيّ افتخارٍ أكبر وأسمى من أن يتحدّث الإنسان إلى خالقه ومعبوده، ويسمع المولى تعالى كلام عبده ويتقبّله. في هذه الدنيا الوضيعة يشعر الإنسان بالعزّ والفخر إذا تحدّث إلى شخص عظيم، أو عالم كبير، ويفاخر إذا تتلمذ على أحد الأساتذة أو العلماء الأفاضل، فكيف بمن يتحدّث إلى ربّ العباد ويُخاطبه !.

2- الشعور بالقوّة: إذا أمسك الطفل يد والدٍ حنون وقويّ، فإنّه يشعر بالقوّة والاطمئنان، أما إذا تُرك وحيدًا، فإنّ الخوف يسيطر عليه، ويخشى من أن يؤذيه الآخرون، هكذا حال الإنسان إذا اتّصل بالخالق سبحانه، فإنّه يشعر بالقدرة والقوّة في مواجهة الطواغيت والمستكبرين والفراعنة.

3- الإحساس بالعزّة: العزّة بمعنى عدم نفوذ الضعف واليأس، فالعزّة في مدرسة الأنبياء هي من عند الله تعالى، كما أنّ القدرة من لدنه سبحانه، لذلك، يُصرّح القرآن منتقدًا أولئك الذين يبغون العزّة من عند غير الله ويطلبونها من سواه سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعً40 من الطبيعي أن يمنح الارتباط بالله - العزيز والمقتدر المطلق - الإنسان العزّة والقدرة، كما شاهدنا أنّ كلمات مثل "الله أكبر" تجعل من الطواغيت أشخاصًا حقيرين عند المستضعفين، وتجعل المستضعفين أعزّاء في مقابلهم. من جهة ثانية، فإنّ القرآن الكريم يأمرنا أن نستمدّ القوّة والقدرة عند المحن والصعاب من الصلاة، إذ يقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ41 وهذا ديدن أولياء الله تعالى عبر التاريخ، حيث كانوا يستمدّون القوّة في المواقع الحسّاسة والحرجة من إقامة الصلاة. في كربلاء، في عصر اليوم التاسع من محرّم، حمل جيش يزيد على مخيم الإمام الحسين عليه السلام، فقال الإمام لأخيه أبي الفضل العباس: "فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغدوة، وتدفعهم عند العشية، لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفر له، فهو يعلم أنّي قد كنت أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"42.

إذًا دفع حبّ الصلاة والخلوة مع الله أبا الأحرار إلى طلب المهلة ولو لليلة، لتكون آخر ليلة من حياته ليلة عبادة وتهجّد.

عبادُ الله الصالحون لا يُحبُّون الصلاة الواجبة وحدها، بل لا يكتفون بها ويحرصون على أداء الصلاة المستحبّة أيضاً، لأنّ الصلاة المستحبّة والنوافل دليل على عشق المؤمن للصلاة، ولعلّ الإنسان يقيم الصلاة الواجبة خوفًا من قهر الله تعالى وغضبه، وامتثالاً لأوامره، لكنّ الصلاة المستحبّة ليس فيها شبهة الخوف ولا شائبته. الحبّ هو الدافع الوحيد إليها، ألا يحبّ الإنسان العاشق أن يتكلّم مع معشوقه، وهل يكتفي هذا العاشق بإلقاء التحيّة المتعارفة الواجبة أم يتجاوزها ويستغلّ كلّ فرصة للأنس بمحبوبه؟ ألا يشعر من استبدّ به الحبّ بأنّ قلبه صار محلّ إقامة دائمٍ لمن يُحبّ، فإذا انشغل بشيء آخر عاد به الشوق إلى مركز الحبّ والعشق؟ فكيف يصحّ للإنسان أن يدّعي حبّ الله تعالى وهو يكتفي بالحدّ الأدنى من الخلوة والحدّ الأدنى من الحديث معه؟

إنّ قلّة الهمّة على أداء النوافل والاكتفاء بالصلاة الواجبة أو استثقالها أحيانًا، أعراض لمرضٍ يُمكن أن نسمّيه عدم صدق الحبّ، وهذا أيضًا له أسبابه، فالانشغال بالمعاصي يسلب الإنسان نعمة تذوّق لذّة المناجاة مع الله، وقد ورد في الأخبار أنّ بعض المعاصي تحرم الإنسان من صلاة الليل ونوافل الأسحار. ومن لا يُقبِل على الله لا يحقّ له أن يتوقّع إقبال الله عليه، ومن ينتظر المصلح عليه أن يكون من أهل الصلاح.

يُضاف إلى ما تقدّم، أنّ صلاة النوافل تجبر النقص الذي ربّما يُصيب الصلاة الواجبة، كما ورد على لسان أحد الأئمّة المعصومين إذ اشتكى إليه أحد أصحابه عدم حضور قلبه أثناء الصلاة، فدعاه الإمام إلى أداء بعض النوافل علّها تجبر نقص صلاته التي يُصلّيها دون حضور قلبٍ43. لذلك، نرى أنّ أولياء الله لم يهتمّوا فقط بالصلاة الواجبة، بل توجّهوا باهتمام أيضًا إلى النوافل والصلاة المستحبّة، وجهدوا في تجنّب كلّ ما يُشكّل مانعًا في سيرهم المعنويّ وعروجهم الروحيّ، ككثرة الطعام، وكثرة الكلام، وكثرة النوم، واللقمة الحرام، واللهو واللعب، والتلهّي بالدنيا، وكلّ ما يثبط الهمّة ويُضعف العزيمة في العبادة، ويجعل الصلاة ثقيلة على الإنسان، لذلك كلّه يصف الله عزّ وجلّ في القرآن الصلاة بقوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ44.

4- الصلاة والتربية: لا شكّ في أنّ الصلاة هي ارتباط روحيّ ومعنويّ، والهدف منها هو ذكر الله تعالى، غير أنّ الإسلام أراد أن يُصقل هذه الروح في قالب سلسلة من البرامج التربوية، لذلك جعل للصلاة شروطًا كثيرةً، وهي تنقسم إلى شروط صحة، وشروط قبول، وشروط كمال. فمن شروط صحة الصلاة مثلاً، طهارة البدن واللباس، والتوجّه نحو القبلة، والقراءة الصحيحة، وإباحة مكان المصلّي ولباسه، وهذه الأمور تتعلّق ببدن الإنسان وليس بروحه في حالة الصلاة، لكنّ الإسلام جعل عبادة الصلاة في هذا اللباس ليعلّم المسلمين دروس النظافة والطهارة والاستقلال واحترام حقوق الآخرين.

ومن شروط قبول الصلاة، التوجّه وحضور القلب، وقبول قيادة الإمام المعصوم وتولّيه، وأداء الواجبات المالية كالخمس والزكاة. أمّا أداء الصلاة في أوّل وقتها، والحضور في المسجد، والمشاركة في الجماعة، واللباس النظيف والتعطُّر والتسوّك، ورعاية النظم في صفوف الجماعة، وأمثال ذلك، فهي تعدّ من شروط الكمال، فإذا تأمّلنا هذه الأنواع الثلاثة من الشروط ودقّقنا النظر فيها، نجد أنّ كلّ قسمٍ منها له دوره الفاعل في تربية الإنسان ورقيّه الروحيّ.

عندما ننظر إلى القرآن نجده يقول: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ45، فالإسلام يريد أن يُفهِم المجتمع الإسلامي أنّ وجهته واحدة، ويُعلّمه كيف يتوحّد ويتّحد ويتضامن، لذلك أمر جميع المسلمين أن يتوجّهوا نحو جهة واحدة هي الكعبة الشريفة ويستقبلوها في صلاتهم. لكن لماذا الكعبة دون غيرها من الأماكن أو الأبنية؟ الجواب: لأنّ الكعبة هي أوّل موضع وضع للناس للعبادة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكً46. من جهة ثانية، من تولّى تشييد هذا البناء وترميمه وإعادة إعماره هم الأنبياء واحدًا بعد آخر.

من هذا المنطلق، فإنّ الوقوف والتوجّه نحو الكعبة هو نوع من الاتصال بالتاريخ، والوحدة والتوحّد في مدرسة الأنبياء عبر الزمان. أضف إلى ذلك، إنّ القبلة (الكعبة) رمز الاستقلال (استقلال المؤمنين)، لأنّ اليهود والنصارى كانوا يُعيّرون المسلمين بأنّهم يتوجّهون إلى قبلتهم (بيت المقدس)، فكانوا يقولون للمسلمين: أنتم تصلّون باتجاه قبلتنا، وليس لكم أيّ استقلالية. والقرآن بيّن هذا المطلب بصراحة إذ يقول: ﴿فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ47، وبذلك قطع الطريق على اليهود والمشركين، وأخرس ألسنتهم. منتهى القول: إنّ القبلة (الكعبة) هي رمز الاستقلال والوحدة، وهذه دروس الصلاة التربوية.

5- حضور الأرواح: التنويم المغناطيسيّ وإحضار الأرواح من الأبحاث الرائجة اليوم في الأوساط والمجتمعات العلمية في العالم، لكنّنا لا نهدف إلى البحث في هذا الموضوع. هدفنا هو إحضار الروح الفارّة والشاردة، لتتوجّه إلى الله تعالى بواسطة الصلاة، أن نعيد هذا التلميذ الفارّ إلى صفّه، وأن نُرجع العبد الآبق إلى حضرة مولاه، فرجوع الروح إلى بارئها ومثولها بين يديه تعالى، من بركات الصلاة.

يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة الشاكين، وهو في مقام الشكوى إلى الله تعالى على نفسه: "إلهي إليك أشكو نفسًا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة... ميّالة إلى اللهو واللعب، مملوءة بالغفلة والسهو، تُسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة". إنّ النفس أشبه بالطفل اللعوب الذي يميل دائمًا إلى اللهو واللعب، فإذا لم يُراقبه والده أفلت من يده، ومال إلى كلّ مكان يطلب اللعب، فهو في ذلك معرّض دائماً للخطر. لذلك، فإنّ أفضل طريق لضبط هذه النفس المتمرّدة ومراقبتها وجلبها إلى الطريق القويم، أن يُحضرها الإنسان عدّة مرّات في اليوم، لتكون في محضر الله تعالى، فيزيل غفلتها، لتنجو من الغرق في مستنقعات الدنيا ومنزلقاتها.

6- الولاية على الوجود: من بركات الصلاة والعبادة أنّ الإنسان يُمكنه أن يتسلّط تدريجًا على الوجود.

الخطوة الأولى: من المؤكّد أنّ التقوى تُنير بصيرة الإنسان وتمنحه الرؤية ليميّز بين الحقّ والباطل. يقول المولى تعالى في القرآن الكريم: ﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَان48، ويقول في آية أخرى: ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورً49. إذن، التقوى التي أساسها العبودية لله تعالى، وعلى رأسها الصلاة، هي خطوة باتجاه النورانية والتحلّي بالبصيرة والرؤية.

الخطوة الثانية: من يتقبّل الهداية الإلهية، ويدور في فلك الحقّ، فإنّ الله تعالى سيزيده هدى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى50. فهداية المؤمنين ونورهم لا يتوقّف، بل هم في حالة قرب ورشد وكمال دائم، بدليل تسليمهم وعبوديّتهم، وبذلك يتّسع شعاعهم الوجودي، ويكبر أكثر فأكثر.

الخطوة الثالثة: يفتح المولى تعالى للمؤمنين سبلًا كثيرة من الهداية، للوصول إلى الكمال، في مقابل جهدهم وسعيهم في سبيل الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ51.

الخطوة الرابعة: هؤلاء المهتدون إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا، واعتذروا إلى الله تعالى بمجرّد أن وسوس لهم الشيطان، وأراد إغواءهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ52.

الخطوة الخامسة: إقامة الصلاة أفضل عامل لبناء الذات، وتجنُّب الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة تنهى المؤمن عن ارتكاب المعاصي: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ53.

عندما يعتلي الإنسان هذه الدرجات ويرتقي هذا السلّم ويخطو هذه الخطوات المباركة، يشعر بأنّ له على نفسه سلطة ويجد أنّه قادر على التحكّم بها بإبعادها عن الوسوسة والانزلاق والانحراف، لا بل عندما يتعرّض إلى ضغوط الوسوسة، وأهواء النفس والطاغوت، يستعين بالصلاة والصبر، ويستمدّ منهما القوّة والقدرة في مواجهة هذه الضغوطات: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ54.

الخطوة السادسة: المتّقون الذين أشرق النور الإلهيّ على صفحات وجودهم، يتقدّمون في كلّ صلاة يُصلّونها خطوة إلى الأمام، لأنّ الصلاة ليست تكرارًا (كما يظن البعض)، بل هي معراج، وهي تشبه السلّم الذي تتشابه درجاته في الشكل، ولكنّها ليست في مستوى واحد، فكلّ خطوة من قدم الإنسان تجعله يرتفع إلى الأعلى. أو كمثل إنسان يحفر بئرًا، فقد يبدو عمله بحسب الظاهر تكراريًّا، إذ يفعل الشيء نفسه دائمًا يحفر ويستخرج التراب، ولكنّ هذه الحركات المتشابهة تنزل به إلى أعماق الأرض، ومع كلّ ضربة معولٍ يضربها يكشف عن عمقٍ جديدٍ. والعبادات - ومنها الصلاة - هي أعمال ظاهرها التكرار، لكنّها في الواقع ارتقاء في سلّم الكمال، وتعمّق في المعرفة والإيمان. ولا يرضى المصلّي بأن يكون عمره مرتعًا للشيطان، كما ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام سيّد السجّادين زين العابدين عليه السلام: "فإن كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ..."55.

فليس الشيطان وحده هو من يسحق روح الإنسان، ويجعله غافلًا عن الحقّ والحقيقة، بل الوهم والخيال، كذلك، يجعلان الإنسان غافلًا عن الحقّ. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يقظًا حتّى وهو نائمٌ، أمّا المحجوبون من أهل الدنيا فهم في صلاتهم غافلون وعنها ساهون، يتلاعبون بها كيفما شاؤوا، وما أجمل قول الشاعر الإيرانيّ جلال الدِّين الرومي إذ يُقارن بين يقظة قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغفلة غيره، فيقول: "قال الرسول تنام منّي العيون ولا ينام القلب عن ربّ الأنام، وأمّا أنت فإنّك ساهر العين غافل القلب، وأما أنا فإنّ نومي يفتح الباب بيني وبين ربّ العباد". ويقول في محلٍّ آخر متحدّثًا عن تأثير الوهم في القلب: "القلب كالريشة في مهبّ الرياح، يسبيها يمينًا ويسارًا جزافًا ويتركها أسيرة الوهم والاختلاف".

واعلم أنّ النفس إذا لم تُقيَّد ولم يُسيطِر عليها صاحبها فإنّها تجرّه إلى الفساد: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ56، لذلك جعل الله تعالى الجنّة للمؤمنين المتّقين، الذين يقرنون القول بالعمل والكلام بالفعل، ولا يطلبون العلوّ والفساد في الأرض، ولا يتمنّون ذلك حتّى في قلوبهم وخواطرهم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ57، فأولياء الله لهم قدرة على التحكّم في أفكارهم وخواطرهم وليسوا محكومين لها. وهم بعد خلوصهم في عبوديّتهم لله تعالى، يُسلّطهم الله على نفوسهم، فيسدّون عليها كلّ أبواب الوساوس والخواطر الفاسدة، فلا يطرق أبواب قلوبهم خاطر سوء. وعلى حدّ قول الشاعر الإيرانيّ: "أنا كالطير في أوج الفضاء، أنّى ينالني ذباب الأفكار البالية".


وعندما يصل الإنسان إلى النور والمعرفة، ويروّض نفسه، ويضبطها، ويوجّه روحه إلى رضا الله تعالى، ويتذوّق حلاوة صلاة العارف العاشق البصير، يتسلّط على نفسه، فتكون له الولاية عليها، عندها يستطيع أن يصل إلى مرحلة الولاية على الوجود، فيصير مستجاب الدعاء، ويصير ربانيًّا في أفعاله وسلوكه. ومعجزات الأنبياء تقع في هذا الصراط وتُصنّف على هذا الأساس، فالمعجزات التي يأتون بها هي شكلٌ من أشكال الولاية على الوجود التي يمنحهم إيّاها الله ويقدرهم عليها لما هم عليه من رقيّ النفس وخلوصها وارتباطها بمعدن الوجود.

من هنا، ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي عن الربوبية أُصيب في العبودية"58.

وقد رُوي في الحديث القدسيّ: "لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبّه، فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها"59، وبذلك يصل إلى مقام إبراهيم الخليل عليه السلام حيث يقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ60، وفي هذه الحالة ينطبق عليه وعد الله إذ يقول: "إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له"61.

سمات الصلاة:
إنّ كلّ ما يُقال ويُكتب في الصلاة لا يؤدّيها حقّها، فكيف يمكن بيان عمود الدِّين، وعلم الإسلام، وتركة الأديان والأنبياء ووصيّتهم، ومحور قبول جميع الأعمال، في عددٍ من الجمل أو الفقرات؟!

- الصلاة برنامج يوميّ صباحيّ ومسائي، فكلماتها هي أوّل ما يجب على الإنسان النطق به عندما يدرك الصباح، وآخر ما يجب عليه قوله قبل أن يأوي إلى فراشه، وبالتّالي هي الذكر الذي نفتتح به نهارنا ونختمه.

- وترمز المطالبة بالصلاة في السفر والحضر، في الأرض وفي السماء، للفقير والغنيّ، ترمز إلى أنّ على الإنسان المحافظة على علاقته بالله تعالى أينما كان وأيًّا كانت حالته.

- الصلاة هي الأيديولوجيا العمليّة للإنسان المسلم، فهو ينطق في صلاته بعقيدته كلّها تقريبًا ويستذكر فيها أفكاره وتمنّياته وأحلامه وطموحاته الأساسيّة.

- الصلاة حصن القيم، وهي المانعة من تشتّت شخصية الأفراد وأعضاء المجتمع، لأنّه إذا كانت قواعد البناء وأعمدته ضعيفة فإنّ البناء سينهار لا محالة.

- أذان الصلاة صُور التوحيد، وصوت نفيره، فهي الجامع والمنظّم لجيش الإسلام المتفرّق، يجمعه في صفٍّ واحدٍ وتحت لواء واحد، وينظّمه خلف إمام عادل.

- إمام الجماعة في الصلاة واحدٌ، وهذا يرمز إلى وحدة الأمّة ووحدة وجهتها وقيادتها، وذلك من أجل حسن إدارة المجتمع الإسلاميّ.

- وإمام الجماعة في الصلاة يراعي حال أضعف الناس، وهذا الأمر يعدّ درسًا اجتماعيًّا، يُعلّمنا ضرورة أن تراعي الأنظمة الاجتماعيّة والقرارات الإداريّة وغيرها حال ضعاف الناس من الفقراء أو غيرهم من المتّصفين بالضعف أيًّا كان نوع هذا الضعف. وقد ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يراعي حال المأمومين وحدهم، بل كان إذا سمع طفلًا يبكي أسرع في صلاته كي لا يؤخّر أمّه المصلّية عنه.

- إن أوّل أمرٍ صدر بعد خلق الإنسان هو أمر السجود: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ62.

- وبيت الصلاة الأول وأول نقطةٍ من الأرض خرجت من تحت الماء، وظهرت في اليابسة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ63.

- أوّل عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة بناء المسجد.

- الصلاة هي أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر أيضًا، ففي كلّ يوم نسمع عدّة مرّات "حيّ على الفلاح"، "حيّ على خير العمل"، وكلّه أمر بالمعروف، فهل هناك معروف فوق معروف الصلاة؟ إنّها أمرٌ بأفضل المعروف، إنّها الصلاة. من جهة أخرى فإنّ الصلاة تقف حاجزًا بين الإنسان وارتكاب الفساد والفحشاء: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ64.

- حركات الصلاة مبنيّةٌ على العلم والمعرفة والبصيرة، معرفة الله تعالى الذي نقوم بأمره وله، ونأنس به، لذلك، نهانا القرآن الكريم عن الصلاة في حالات السكر والكسل، لكي يلتفت الإنسان إلى ما يقوله أثناء الصلاة، ويتبصّر به ويدركه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى65، ويقول أيضًا: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيل66، ويقول كذلك: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ67. فهذه الآيات تدلّ على قبح السكر والكسل وغيرهما كما تدلّ على تضاعف هذا القبح في حالة الصلاة.

- الصلاة هي مصدر الوعي وباب من أبواب المعرفة، فصلاة الجمعة التي تُصلّى بدل الظهر من يوم الجمعة تتألّف من خطبتين وركعتين، وفي الخطبتين يدعو الإمام إلى التقوى ويُعلّم أمور الدِّين ويتحدّث عن كلّ ما يهمّ المجتمع الإسلاميّ، وبذلك ينشر الوعي والمعرفة بين المصلّين. وقد يُستفاد من تقديم الخطبة على الصلاة أنّ الوعي أولًا ثمّ الصلاة.

- الصلاة خروج من الذّات وعروج نحو الله تعالى، والقرآن الكريم يُعبِّر عن هذه الحالة، أي حالة الخروج إلى الله تعالى، بتعبير يبلغ الغاية في اللطف والإعجاز والبيان، إذ يقول عزّ شأنه: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمً68. وعلى الرغم من أنّ ظاهر هذه الآية هو الحديث عن الجهاد والهجرة للقتال في سبيل الله وتحت راية رسوله، ولكن يمكن توسعة مفهوم الخروج ليشمل الخروج إلى الصلاة، يقول الإمام روح الله الموسوي الخميني، في هذا المجال: "إن الهجرة من منزل القلب إلى الله تعالى من مصاديق هذه الآية، إنّ الهجرة من الإعجاب والغرور والأنانية نحو المعنويات والروحانيّات هي من أكبر الهجرات"69.

- مثل الصلاة بين سائر العبادات كمثل الإنسان الكامل بين الناس.

- الصلاة بمنزلة اسم الله الأعظم، لا بل هي اسم الله الأعظم.

- يتجلّى في الصلاة أمران هما عزّة الله وعبوديّة المصلّي كأجلى ما يكون التجلّي، وما أشمخ هذا المقام.

- "الصلاة علَم الإسلام" ورايته، وإذا دقّقنا قليلًا في جملة "الصلاة علَم الإسلام" نستنتج الآتي:
العلامة الدالّة على الإيمان هي الصلاة، لأنّ العلَم هو الذي يُميّز الجماعة التي ترفعه.
الاستخفاف بالصلاة استخفاف بالإسلام، كما أنّ إهانة العلَم إهانة لأصحابه.
الصلاة رمز القوّة الاجتماعيّة للإسلام، لأنّ العلَم رمز قوّة البلد ودليل تماسكه.

الصلاة والقرآن:
إذا عدنا إلى كتاب الله تعالى، نجد أنّ المولى تعالى يطرح الصلاة إلى جانب القرآن فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ70، ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ71، وقد عبّر الله سبحانه عن الكتاب بأنّه ذكر وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ72، كما عبّر عن الصلاة بقوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي73. وليس هذا فحسب بل ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً74، أنّ المراد من قرآن الفجر هو صلاة الصبح. ومن مؤشّرات العلاقة المتينة بين الصلاة والقرآن أنّ جزءًا مهمًّا من أجزاء الصلاة هو القراءة أي قراءة سورة الفاتحة وسورة أخرى معها. وأخيرًا ذُكِرت الصلاة في أطول سور القرآن (سورة البقرة) وفي أقصر سورة من سوره (الكوثر).

الصلاة وقانون العقوبات:
لم يُشرَّع القصاص في الدِّين الإسلامي فقط، بل جاء في جميع الأديان، فجزاء من قطع أذنًا، أن تُقطع أذنه، وجزاء من كسر سنًّا أن تُكسر سنّه، ذلك من أجل إقامة العدالة في الأرض. وجاء في القصاص أنّ السارق تُقطع يده، ولكن تُقطع الأصابع دون الكفّ حفاظًا على عضوٍ من أعضاء الصلاة، وقد استند الإمام عليه السلام إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ75، لتبرير العفو عن الكفّ وقطع الأصابع في حدّ السرقة.

العبادة والولاية:
تكون العبادة ذات قيمة عندما لا تكون سطحية، وعندما تكون مقرونةً بالعلم وبمعرفة القائد الإلهيّ، أي مقرونة بالولاية والولاء الصحيح، وعندما يرافقها الخشوع والآداب الخاصة بها. إذا عدنا إلى التاريخ نجد أنّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قد ابتُلِي بجماعة من المصلّين المتحجّرين الجاهلين، عُرفوا في التاريخ باسم (المارقين والخوارج)، وكانت جباه هؤلاء سوداء من أثر السجود وطوله، لكنّهم خرجوا على إمام زمانهم الإمام عليّ عليه السلام، وسلّوا سيوفهم في وجهه وحاربوه. ومن المؤسف أن تتكرّر هذه الظاهرة مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فقد ورد في الأخبار التي تتحدّث عن آخر الزمان، أنّ جماعة من ملازمي المساجد يخرجون في وجهه ويعارضونه.

ولا تظنّوا أنّ الذين اجتمعوا في كربلاء لقتال الإمام الحسين عليه السلام كانوا جميعًا من تاركي الصلاة، كلّا، كانوا من المصلّين، وبعضهم كان لا يترك صلاة الجماعة، ولكنّ معاوية ويزيد وأمثالهم كانوا أئمّة جماعتهم!

نعم، إنّ العبادة مع الجهل تكون نتيجتها قتل أعبد الناس وهو ساجد في محرابه، ليس هذا فحسب، بل عدّ قتل أمير المؤمنينعليه السلام وهو يصلّي في المسجد عبادة، وبقصد التقرّب إلى الله تعالى.

يجب أن تترافق جميع العبادات مع المعرفة، معرفة القائد الحقّ وطاعته، وهذا الأمر لا ينطبق على الصلاة فحسب، بل جاء في الأحاديث أنّ الله تعالى قد أوجب الحجّ على الناس ليجتمع الناس حول الكعبة في مكّة، فيجتمعون مع إمامهم المعصوم ويرتبطون به: "إنّما أُمِر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيتطوفوا بها ثم يأتوننا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضون علينا نصرتهم"76، و "ولتُعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتُعرف أخباره ويُذكر ولا يُنسى"77، لكن ما يجري اليوم أنّ الملايين تطوف حول الكعبة وتجتمع في مكّة، لكنّها متفرّقة مشتّتة، لأنّه ليس لها إمامٌ وقائدٌ إلهيٌّ، يقودها نحو الله وباتّجاهه. فالأمّة في هذا العصر تتوفّر على إمكانيّات اقتصاديّة هائلة ولكنّها تذهب هدرًا وتجد الأمّة نفسها عاجزةً أمام عدد قليلٍ جدًّا شكّلوا دولة أسموها إسرائيل.

إنّ الإسلام مجموعة متكاملة وكلٌّ لا يتجزّأ، فالصلاة من دون ولاية لا تُقبل، والصلاة من دون دفع الزكاة لا تُقبل أيضًا، كما أنّ الإنفاق من غير صلاة لا يُقبل. إن أوامر الإسلام وأحكامه مثل أعضاء البدن الواحد، فلا يقوم عضو بوظيفة عضو آخر، ولا يأخذ عضو مكان عضو آخر، فلا العين تقوم بعمل الأذن، ولا الأذن تقوم بوظيفة الرجل أو اليد. كذلك الإسلام، الصلاة لا تقوم مقام الزكاة، فكما أنّ هذين العملين لا يمكن لأيّ منهما أن يحلّ محلّ الجهاد في سبيل الله تعالى، بل إنّ جميع هذه المسائل والأحكام هي الإسلام، فالإسلام يتشكَّل من هذا الكلّ.

درجات العبادة:
إذا سألنا الطفل عن سبب حبّه والديه؟ فإنّه سيقول: أحبّهما من أجل الهدايا والألبسة والحلوى و... أمّا إذا سألنا الشابّ، فسيقول: إنّ الوالدِّين هما علامة شخصيّتي وهويّتي، وهما اللذان ربّياني وأحبّاني، فإذا أصبح الشاب أكثر رشدًا ومعرفةً، عندها يُصبح الأنس بالوالدِّين - بالنسبة إليه - له لذّة خاصة، فلا يُفكِّر بعد ذلك بالألبسة والأطعمة والحلوى، ولا حتى بالتربية والتعليم، بل يأنس بهما، وكثيرًا ما نرى البعض يتّخذ من خدمة والديه وسيلةً يتقرّب بها إلى الله تعالى، ويعدّ ذلك كمالًا، فيفكّر أبعد وأسمى من المادّيات والتربية، وحتّى من الأنس. وعبادة الله تعالى هي كذلك أيضاً، فكلّ فردٍ يعبد الله تعالى لدليلٍ وسببٍ، لذلك فللعبادة مراحل:

المرتبة الأولى: من الناس من يعبد الله تعالى لأجل نعمه، ويحاول بالعبادة تقديم واجب الشكر لله سبحانه، كما يُخاطب القرآن الكريم عامّة الناس في قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ78، هذه هي المرتبة الأولى من مرّاتب العبادة، والتي نُسمّيها عبادة الشكر، هي تُشبه - تمامًا - حبّ الطفل لوالديه، لأنّهم يشترون له الحلوى والألبسة والألعاب.

المرتبة الثانية: في هذه المرتبة يعبد الإنسان المولى تعالى بسبب آثار العبادة وبركاتها، فيُلاحظ الآثارَ الروحيّة والمعنوية للصلاة، كما يقول القرآن: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ79. هذه العبادة التي نُسمّيها عبادة الرشد، تُشبه احترام الشاب لوالديه لأنّهما ربّياه وعلّماه، وحفظاه من الخطر والانحراف.

المرتبة الثالثة: وهي مرتبة أعلى وأسمى مقامًا من المرّاتب السابقة، حيث نقرأ أنّ المولى تعالى يقول لموسى عليه السلام: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي80. ومن المؤكّد أنّ موسى عليه السلام لم يكن يُقيم الصلاة من أجل الطعام والشراب، ولا بسبب اجتناب الفحشاء والمنكر، فهو نبيٌّ من أنبياء أولي العزم، وهو بعيدٌ كلّ البعد عن الشهوات والمنكرات، إنّما صلاته كانت من أجل الأنس بالله تعالى والذكر له، فالأنس بالله عزّ وجلّ بالنسبة إلى أولياء العزم أفضل داعٍ يدعوهم إلى العبادة.

بلى الأطفال هم الذين يجلسون في صدر المجلس طمعًا بالتكريم والضيافة. وفي مقابل هذا الصنف من العلاقة بالكبار والعظماء ثمّة من يتقرّب منهم طمعًا بالكرامات المعنويّة التي يتوفّر عليها الكبار، وعند هذا الصنف من الناس الأنس هو المعيار في الرغبة والتقرّب من العظماء.

المرتبة الرابعة: هذه المرتبة هي الأعلى والأفضل بين المرّاتب المتقدّمة، فهي ليست عبادة شكر ولا رشد ولا أنس، بل هي عبادة يُراد منها القرب فحسب، والقرب المقصود هو القرب من الله عزّ وجلّ. وفي القرآن الكريم أربع آيات يجب السجود عند قراءتها، في واحدة من هذه الآيات يُطرح الوصول إلى مقام القرب نتيجة العبادة، يقول الله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ81.

وبناءً على ما تقدّم يتبيّن أنّ العبادة ليست مرتبة واحدة بل مرّاتب ودرجات تختلف باختلاف الأشخاص ومستواهم في العلم والمعرفة والوعي.

سمات العبادة:
1- اعلم أنّ العبادة هي التي أهّلت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليسري به الله تعالى ليلة المعراج: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى82.

2- العبادة هي التي مهّدت السبيل لنزول الملائكة: ﴿نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَ83.

3- العبادة هي التي تجعل الإنسان مستجاب الدعاء، لأنّ "الصلاة عهد الله" وكلّ من يفي بعهد الله تعالى، فإنّ الله سبحانه يفي بعهده: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ84. والواقع أنّ الإنسان من دون العبادة يهوي إلى مرتبة أدنى وأخسّ من مرتبة الحجارة والجماد، لأنّ بعض الحجارة يهوي من خشية الله، وبعضها تتفجّر منه المياه: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ85. هذا حال الجمادات، لكن بعض البشر لا يُطأطئون رؤوسهم حتى لمنبع الفيض كلّه، خالق الوجود عزّ وجلّ شأنه.

4- العبادة علامة من علامات قوّة الإرادة عند الإنسان، ومؤشّر إلى شدّته في مواجهة الغرائز والأهواء، فقيمة الإنسان تتجلّى وترتفع عندما يكون محاصرًا بكلّ هذه الغرائز والأهواء، ويتمكّن من الانعتاق منها جميعًا، فيتوجّه نحو الحقّ، ويترك كلّ الميول والأهواء خلف ظهره، ويسير سالكًا إلى الله تعالى، وإلا فإنّ الملائكة في حالة دائمة من العبادة والتسبيح، لأن لا شهوة لها ولا غضب.

5- العبادة تجعل أقلّ الناس شهرةً في الأرض أكثرهم شهرة في السماء.

6- العبادة تعني التطلّع والنظر إلى الوجود كلّه من أعلى.

7- العبادة تفتّح الاستعدادات والمواهب العرفانيّة والمعنويّة الكامنة في وجود الإنسان.

- العبادة هي القيمة التي يكسبها الإنسان بإرادته واختياره، بخلاف القيم العائليّة، أو الاستعدادات الباطنية، فهذه الخصائص على الرغم من أهميّتها، ليست اختيارية، ولا يكتسبها الإنسان بجهده.

- العبادة تجديد العهد والميثاق مع الله تعالى، وهي التي تحفظ الحياة المعنوية وتُبقيها نضرة ومتجدِّدة.

- العبادة تمنع من ارتكاب الذنوب، لا بل تمحو آثارها، فذكر الله يسدّ باب الذنوب والمعاصي.

- العبادة هي التي تملأ وعاء الروح بذكر الله، وما سوى ذلك هو ظلم لجوهر الإنسان.

- العبادة تمنح الأرض والتراب قيمة وقداسة، فالأرض غير العاديّة عندما تتحوّل إلى مسجدٍ للصلاة تكتسب قداسة تمنع غير المتطهّرين من الدخول إليها.

- العبادة والعبودية قيمة بحدّ ذاتها، بغضّ النظر عن الآثار التي تترتّب عليها، كما لو كانت دعاءً لم يُستجبْ.

- العبادة في السرّاء والضرّاء، أثناء الفرح، وفي الأوقات العصيبة، فالمولى تعالى يُعطي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الكوثر ثم يوصيه بالصلاة: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ86. ويوصيه بالصلاة في حالات الشدّة فيقول له عزّ وجلّ: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ87.

الصلاة تحلّ المشكلات:
يوصي الإسلام الحنيف ببعض الصلوات الخاصة لرفع الحاجات، فالإنسان كلّما كانت له حاجة، أو واجهته مشكلة، أو أمر شديد، يتوجّه إلى الله تعالى بصلوات خاصة مذكورة ليطلب منه فيها حلّ مشكلته، ويحسن بنا في هذا السياق ذكر بعض النماذج:

صلاة جعفر الطيار:
جعفر بن أبي طالب الملقّب بالطيّار هو أخو الإمام علي عليه السلام، هاجر إلى الحبشة في بداية الدعوة، واستطاع هناك برسوخ إيمانه وحكمته وقوّة استدلاله أن يجذب قلب ملك الحبشة وعددًا من النصارى، ويؤسّس للإسلام في قارة أفريقيا. استشهد جعفر في معركة مؤتة، وقُطِعت يداه قبل أن يُستشهد، فأبدله الله تعالى بهما جناحين في الجنّة، فهو يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء، كما ورد في بعض الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولأجل ذلك اشتهر بهذا اللقب في التاريخ الإسلاميّ.

وقد ورد في الرواية عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: قال له رجل: "جُعِلت فداك أيلتزم الرجل أخاه؟ فقال: "نعم إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم افتتح خيبر أتاه الخبر أنّ جعفرًا قد قدم، فقال: "والله لا أدري بأيّهما أنا أشدّ سرورًا، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر"، قال: "فلم يلبث أن جاء جعفر، قال: "فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالتزمه وقبّل ما بين عينيه، قال: فقال له الرجل: الأربع ركعات التي بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر جعفرًا أن يُصلّيها؟ فقال: لمّا قَدِم عليه السلام عليه قال له: "يا جعفر ألا أُعطيك، ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟". قال: فتشوّق الناس ورأوا أنّه يُعطيه ذهبًا أو فضّةً، قال: بلى يا رسول الله، قال: صلّ أربع ركعات متى ما صلّيتهن غُفر لك ما بينهنّ، إن استطعت كلّ يوم، وإلا فكلّ يومين، أو كلّ جمعة، أو كلّ شهر، أو كلّ سنة، فإنّه يُغفر لك ما بينهما"88. وقد وردت أخبار عدّة عن هذه الصلاة على لسان أئمة الهدى عليهم السلام، ونُقِلت بسندٍ معتبر من طرق الشيعة والسنّة. وقد دُعِيت بصلاة الحبوة، وعُرفت باسم الإكسير الأعظم. وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أنّ من همّه شيء أو عرض عليه حاجة أو مشكلة فليصلّ صلاة جعفر وليدعو بعدها فإنّ دعاءه مستجاب بإذن الله تعالى".

وهذه الصلاة واحدة من عشرات الصلوات المستحبّة التي وردت في رفع الهمّ والغمّ والمشكلات وطلب الحاجات، وقد طُبع مؤخّراً كتابٌ تحت عنوان الصلاة المستحبّة حيث ورد فيه حوالى (350) صلاة مستحبّة بالاسم والكيفية، وهذا يُبيّن أهمّية الصلاة، بحيث ورد لكلّ مناسبة صلاة خاصة.

الصلاة والقيادة:
عندما تُقام الصلاة بواسطة القادة الربّانيين فإنّ بساط الظلم سوف يتمزّق، وعرش الطاغوت سوف يتزلزل. نقرأ في التاريخ كيف شعر المأمون أنّ حكومته لن تقوم لها قائمة، عندما أراد الإمام الرضا عليه السلام إقامة صلاة العيد بتلك العظمة، لذلك، أدرك المأمون أنّ حكومته الظالمة سوف تتزلزل لو أتمّ الإمام صلاته، وبذلك سينتهي حكم بني العباس، لذلك أمر بإرجاع الإمام من وسط الطريق، ولم يدعه يقيم الصلاة ويُتمّها. من هنا، نفهم اليوم لماذا صلاة المسلمين من دون أثر يُذكر، دليل ذلك أنّهم يعملون ببعض القرآن لكنّهم نسوا البعض الآخر، فلا يعملون به، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ89.

بعض المسلمين اليوم يُقيمون الصلاة ولا يُأتون الزكاة، والبعض الآخر يُصلّون ويُزكّون أموالهم، لكنّهم لا يُطيعون إمامهم وقائدهم، لا بل يتولّون الكفّار، وبعبارة أخرى مختصرة: يؤمنون بالله لكن لا يكفرون بالطاغوت. وهذا إيمان ناقص. أمّا القرآن فيوصينا بـ: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ90، وهذا يعني أنّ المطلوب هو الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت، على حدٍّ سواء، في حين أنّ المسلمين قد نسوا البراءة من الكفر والطاغوت، وهؤلاء وصفهم القرآن في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدً91، يزعمون الإيمان وهم يتولّون الطاغوت ولا يكفرون به.

قداسة الصلاة:
للصلاة قداسة عظيمة إلى حدّ أنّ أداء بعض الأعمال (كالقسم والشهادة) لا يكون إلا بعد الصلاة. يشير القرآن الكريم في سورة المائدة إلى هذا المعنى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ92، فالشاهدان يُحبسان إلى ما بعد إقامة الصلاة، ثم بعد ذلك يُحضران ويُقسمان ويشهدان بالحقّ... ولعلّ اختيار وقت الصلاة للشهادة يعود إلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إلى الحق. (في أيّامنا الحاضرة تُقام مراسم القسم بإحضار القرآن الكريم فيضع الشاهد يده على القرآن ويحلف). أمّا القرآن فيصرّح في هذا الشأن أنّ القسم بعد أداء الصلاة.

شموليّة الصلاة وجامعيّتها:
خلق الله الإنسان والكون في أحسن تقويم ونظامٍ، وشرّع له أفضل نظامٍ تشريعيٍّ وأكمله، فمثلاً جعل في حليب الأمّ جميع الفيتامينات والموادّ التي يحتاجها الطفل الرضيع، وإذا نظرنا إلى أكبر أو أصغر حيوان فإنّا نرى هذا النظام يسري أيضاً، إذ إنّ يد القدرة الإلهيّة جعلت في خلق البرغشة الصغيرة كلّ ما جعلت في الفيل الضخم، وأضافت إليه الأجنحة التي لا توجد في الفيل. وإذا نظرنا إلى الجراد نرى أن عناية القدرة الإلهيّة جعلت فيه من كلّ حيوان عضو، فرأسه يُشبه رأس الحصان، كذلك بالنسبة إلى أعضائه، فكلّ عضو منه يُشبه عضوَ حيوان آخر. أمّا إذا نظرنا إلى الإنسان فإنّا نرى أنّ المولى تعالى قد وضع فيه من كلّ ما خلق في الطبيعة، ففي الطبيعة صوت الرعد، وفي الإنسان صوت الصراخ، في الطبيعة نبات وشجر، وفي جسم الإنسان ينبت الشعر وينمو، في الطبيعة عيون وينابيع، وفي الإنسان كذلك عيون تحت لسانه تنبع فتزوّد الفم بالماء. وانظر إلى عروق الإنسان وشرايينه، كم هي شبيهة بالأنهار المائية في الطبيعة! إلى غير ذلك من الأعضاء البشرية التي تُحاكي الطبيعة، مرتفعات ومنخفضات، ماء عذب وماء أجاج. ولقد لخّص أمير البلاغة والكلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في الشعر المنسوب إليه عظمة الإنسان على مستوى التكوين فقال: "أتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".

هذا الأمر يسري أيضاً في الصلاة التي يظهر فيها الفنّ الإلهي، حيث جعل الله تعالى - بنحو ما - جميع القيم في الصلاة، فأيّ كمال له قيمة عند الإنسان ولا يوجد في الصلاة؟ وحتّى تتّضح صورة جامعيّة الصلاة بشكل أفضل، لا بدّ من الإشارة هنا إلى القيم والكمالات الكامنة في الصلاة:

- ذكر الله تعالى، قيمة بحدّ ذاته ووسيلة لطمأنة القلوب، والصلاة هي ذكر الله تعالى من أوّلها (الله أكبر) إلى آخرها.

- ذكر يوم القيامة، يُعدّ رادعًا للإنسان عن أعمال الفحشاء والمنكر وارتكاب المعاصي، والصلاة تُذكّرنا "بمالك يوم الدِّين".

- السير على خطّ الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين قيمة، فنحن في الصلاة نقرأ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ.

- البراءة من الظلم والظالمين والضلال والضالّين في عبارة: ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.

- العدالة: وتأتي على رأس جميع القيم، فالعدالة مطلوبة في إمام الجماعة، لذلك، فإنّ طاعة الإمام العادل والسير على خطاه وهديه أصل ذو قيمة اجتماعية كبيرة، إذ يجب التوحّد خلف القائد العادل، بدل التفرُّق والتشتُّت.

- في اختيار إمام الجماعة يجب الالتفات دائمًا إلى الأكثر عدالة وفقاهة وفصاحة و..

- الوقوف والتوجّه نحو القبلة يحمل بين طيّاته قيمًا كثيرةً: (مكة) المكان الذي تحمّل فيه بلال العذاب، مكان أضحية إسماعيل عليه السلام، مكان ولادة علي عليه السلام، مكان ظهور صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، مكان ابتلاء ابراهيم، ومكان عبادة جميع الأنبياء والأولياء.

- في الصلاة حركة دائمة، في كلّ صلاة، في الصباح والمساء، في السجود والركوع، في الجلوس والقيام، حركة في الذهاب والإياب إلى المسجد والمصلّى. إذن، الصلاة حركة وجهد، وكلّ ذلك لله وإلى الله وفي الله سبحانه.

- الصلاة تجعل روح الإنسان طاهرة نقية نظيفة، ففي الصلاة ينفض الغبار عن الروح، يتساقط غبار التكبُّر والأنانية، لأنّ أعلى نقطة في جسم الإنسان تتمرّغ بالتراب عدّة مرّات كلّ يوم، أعلى نقطة تنزل إلى أسفل نقطة خاضعة للخالق، على أنّ السجود على التراب أفضل من السجود على الحجر، لأنّ التذلُّل يكون في التمرُّغ بالتراب.

- في الصلاة نسجد على الأرض، وعلى كل ما نبت في الأرض، ماعدا المأكول منه، فلا يُفكِّر الإنسان في بطنه أثناء الصلاة.

- في الصلاة نسجد على الأرض الطاهرة، لأنّه لا يمكن الوصول إلى الطهارة ومنبع الطهارة من الطريق النجس.

- البكاء خوفًا من الله تعالى قيمة أيضاً، والقرآن أثنى على السجود مع البكاء: ﴿سُجَّدًا وَبُكِيًّ.

- الصلاة خطّ إلهيّ، رُسم لنا منذ الولادة وحتّى لحظة الموت الأخيرة: فالطفل منذ لحظة الولادة الأولى، عندما يأتي إلى الدنيا، يؤذّن ويُقام في أذنيه، ويسمع من الأذان والإقامة: "حيّ على الصلاة"، وعندما يموت يدفن بإقامة صلاة الميت عليه، وما بين الولادة والموت - طوال حياته - يكون في حالة طاعة وعبادة لله سبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ93.

- الصلاة صلة الإنسان بالطبيعة، فهي تجعله مرتبطًا بالطبيعة، فأثناء الصلاة - خصوصًا صلاة الصبح والظهر - ننظر إلى الشمس لنعرف وقت الصلاة، كذلك ننظر إلى النجوم لكي نعرف اتجاه القبلة، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ بعض الصلوات المستحبّة - في أيّام مباركة خاصّة - مرتبطة بحركات القمر، لذلك نتابع حركته. أمّا الغسل والوضوء فنتوجّه إلى الماء، وفي السجود والتيمّم نتوجّه إلى التراب، هذه العلاقة بين الصلاة من جهة، وبين الشمس والقمر والنجوم والماء والتراب من جهة أخرى، من الذي أوجدها؟ أي مخطِّط حكيم أوجد هذا البرنامج؟

- الواجبات الدِّينية الأخرى أيضًا حاضرة في الصلاة بأشكال عدّة، ففي الصلاة نوع من الصوم إذ لا يجوز للمصلّي تناول الطعام والشراب في صلاته. والمصلّي يتوجّه إلى مكّة والكعبة التي يقصدها المسلمون ويحجّون إليها. والمصلّي يجاهد نفسه ويصطبر على الصلاة وهذا وجه الاشتراك بين الصلاة والجهاد، غير أنّ الصلاة جهاد أكبر، إنّها جهاد النفس، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي تشترك في هذه الصفة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- من جهة أخرى، الهجرة من الأفعال المهمّة في الإسلام، فهذا نبيّ الله إبراهيم عليه السلام حمل زوجه وابنه إسماعيل، وهاجر بهما إلى جانب الكعبة من أجل الصلاة، إذ يقول المولى تعالى على لسان نبيّه إبراهيم: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ...94. واللافت أنّ إبراهيم عليه السلام لم يقل إنّي مسافر من أجل الحجّ، بل لإقامة الصلاة: ﴿لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ. لقد جعل المولى تعالى كلّ القيم في الصلاة، ومع الصلاة، ومن أجل الصلاة.

- إذا كانت النظافة والزينة من القيم، فالإسلام من جهته يوصي فيقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ95، فالإسلام يؤكّد على النظافة والتعطُّر والتزيُّن، خصوصاً، عند الذهاب إلى المساجد لإقامة الصلاة، كما ويؤكّد على السواك، فقد ورد في الروايات أنّ الصلاة مع السواك تعدل سبعين صلاة من غير سواك، ونقرأ في الروايات أيضًا أنّ الإسلام يوصي بتجنّب تناول البصل والثوم، وكلّ ما يصدر رائحة قد تزعج المصلّين في الجماعة. هذه هي صلاة الإسلام، أمّا كيف هي صلاة بعض المسلمين؟ فمع الأسف أن نجد مسلمًا لا يُصلّي، أو مسلمًا يُصلّي خطأً، أو يُحافظ على شكل الصلاة ويُصلّي دون حضور قلبٍ، أو يُصلّي فرادى ويترك صلاة الجماعة، أو يُصلّي في آخر الوقت.

- والأهم من ذلك كلّه، أنّ المساجد كانت محلًّا يخدم فيه الأنبياء، فقد كان اشتغل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء المسجد الحرام: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ96. وكان زكريا عليه السلام خادمًا في المسجد. وأمّا أمّ مريم عليها السلام فقد نذرت جنينها ليكون خادمّا في بيت الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ97. هذه المساجد التي كان الأنبياء خدامها، قارن حالها بحال أكثر مساجدنا التي صار خدّامها اليوم - غالبًا - أفراد عاطلين عن العمل، أو عجزة وطاعنين في السنّ، أو مرضى وفقراء وفي بعض الحالات جهلة غير متعلِّمين، وفي بعض الأحيان من سيّئي الخلق! لكن السؤال: لماذا يعدّ كنس الغبار من حرم أئمة الهدى عليهم السلام افتخارًا، أما المساجد وبيوت الله فلا؟! لماذا مساجدنا يجب أن تكون مكانًا إذا دخل الإنسان إليه شعر بالحزن والغمّ والكسل؟ هل أصبحت المساجد مكانًا للعزاء والحزن، ومركزاً لتوابيت الموتى وقراءة الفاتحة على الأموات، بحيث نراها دائمًا مكسوّة بالسواد؟! بالطبع شهدنا مؤخّراً حركة جيّدة في المساجد، حيث نرى الكثير منها يُجهّز بالمكتبات العامّة، كما تشهد حركة فعّالة من قبل الشباب، وبعضها جُهّز بصناديق القرض الحسن، وغير ذلك من الأمور والتجهيزات. ما أفضل وأجمل الحديث الشريف الذي يقول: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ، مسجد خراب لا يُصلّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلَّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه"98. إنّ الكلام حول المساجد كثير، وقد تمّ مؤخّراً تأليف كتاب تحت عنوان: "سمات المساجد"، طبع في مجلّدين اثنين، هذا الكتاب يوضّح مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي.

أمّا إذا عدنا إلى صدر الإسلام، فنجد أنّ المسجد كان مكاناً لاجتماع المسلمين، يتشاورون فيه ويتّخذون القرارات ويضعون الخطط والبرامج، وكان محلّاً للعلم والتعلُّم، حيث تُعقد فيه حلقات العلم، ومقرًّا للمجاهدين والمقاتلين، ومحلّاً للتباحث في شؤون المسلمين ومساعدة المرضى والفقراء وحلّ مشاكلهم، وكان مركزًا لنهوض المسلمين والثورة في وجه السلطان الظالم، حيث كانت تُقام فيه الخطب الحماسيّة التي تُشجّع الناس على الثورة في وجه الطواغيت.

من هنا، فإنّ المسلمين اهتمّوا بالمساجد، طوال التاريخ، ومن منطلق هذه المكانة السامية والمقام الرفيع للمسجد، فقد عمد المسلمون إلى استخدام أفضل المهارات والفنون المعمارية في بناء المساجد، وبذلوا الأموال الكثيرة، ووقفوها في سبيل بقاء المساجد عامرّة وقائمة بأفضل صورة.

* من كتاب شرح الصلاة.


1- سورة الذاريات: الآية56.
2- سورة البقرة: الآية 138.
3- وقد يسال سائل هنا: إذا كان حبّ الأبناء فطريًّا فلماذا كان بعض الناس في الجاهلية يدفن بناته وهنّ على قيد الحياة؟!
والجواب: هو أنّ الأمور الفطريّة متعدّدة وقد يوقع الخطأ في التطبيق وفهم المصاديق بعض الناس في حالة تناقضٍ مع أمرٍ فطريٍّ على حساب أمر فطريٍّ آخر. فحبّ الأبناء فطريٌّ والحفاظ على الشرف فطريٌّ أيضًا، ولأنّ بعض العرب كانوا يخطئون في فهم الشرف وكيفية الحفاظ عليه كانوا يضحّون بحبّهم لبناتهم حفاظًا على شرفهم وماء وجههم وهربًا من العار الذي كانوا يعتقدون أنّه سوف يلحق بهم بسبب البنت. ولسنا نقصد الدفاع عن فعل هؤلاء ولكنّنا نحاول تفسير القيام بفعل مخالفٍ للفطرة والطبيعة الإنسانيّة.
4- سورة النحل: الآية 78.
5- سورة الروم: الآية 54.
6- سورة الملك: الآية 30.
7- سورة الواقعة: الآية 70.
8- سورة الواقعة: الآيات 63 – 65.
9- سورة النبأ: الآيات 6 – 9.
10- سورة القصص: الآيتان 71 – 72.
11- الإمام عليّ عليه السلام، نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ج3، ص 75.
12- سورة طه: الآية 14.
13- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 253.
14- بحار الأنوار، ج71، ص 218.
15- الودك: الدَّسم.
16- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 13، ص 404 – 405.
17- وردت هذه الرواية في عدد من الكتب مثل: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج54، ص74، ابن سعد، الطبقات الكبرى، جلال الدِّين السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص310.
18- بحار الأنوار، ج 78، ص 357.
19- ابن بابويه، فقه الرضا، ص337، وبحار الأنوار، ج75، ص321.
20- سورة البقرة: الآية 65.
21- ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي سورة طه: الآية 14.
22- سورة الرعد: الآية 28.
23- فرقة من غير المسلمين لهم دينٌ خاصٌّ بهم وقد اختلف الفقهاء في أنّهم من أهل الكتاب أو ليسوا منهم، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
24- انظر: الشيخ باقر شريف القرشيّ، حياة الإمام الرضا عليه السلام، ج1، ص 102-105.
25- سورة الحجر: الآية 99.
26- بحار الأنوار، ص 326، ج35.
27- سورة طه: الآية 14.
28- سورة الرعد: الآية 28.
29- سورة القمر: الآية 28.
30- سورة النساء: الآية 1
31- سورة قريش : الآيتان 3-4.
32- سورة العنكبوت: الآية 45.
33- سورة هود: الآية 114.
34- بحار الأنوار، ج 69، ص 325.
35- بحار الأنوار، ج 33، ص 369.
36- انظر: السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج 4، ص 52.
37- بحار الأنوار، ج 6، ص 114- 115.
38- بحار الأنوار، ج 66، ص 329.
39- بحار الأنوار، ج77، ص402.
40- سورة النساء: الآية 139.
41- سورة البقرة: الآية 45.
42- عاشوراء في الحديث والأدب، ص133.
43- انظر: وسائل الشيعة، ج 4، ص 71.
44- سورة البقرة: الآية 45.
45- سورة البقرة: الآية 115.
46- سورة آل عمران: الآية 96.
47- سورة البقرة: الآية 150.
48- سورة الأنفال: الآية 29.
49- سورة الحديد: الآية 28.
50- سورة محمد: الآية 17.
51- سورة العنكبوت: الآية 69.
52- سورة الأعراف: الآية 201.
53- سورة العنكبوت: الآية 45.
54- سورة البقرة: الآية 45.
55- السيد الأبطحي (شرح وتحقيق)، الصحيفة السجادية، ص 111.
56- سورة يوسف: الآية 53.
57- سورة القصص: الآية 83.
58- منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، ص 597.
59- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 352.
60- سورة الأنعام: الآية 162.
61- علاء الدِّين الهندي، كنز العمال، ج1، ص 231.
62- سورة الحجر: الآيتان 28- 29.
63- سورة آل عمران: الآية 96.
64- سورة العنكبوت: الآية 45.
65- سورة النساء: الآية 43.
66- سورة النساء: الآية 142.
67- سورة التوبة: الآية 54.
68- سورة النساء: الآية 100.
69- الإمام الخميني، أسرار الصلاة، ص 12.
70- سورة فاطر: الآية 29.
71- سورة الأعراف: الآية 170.
72- سورة الحجر: الآية 9.
73- سورة طه: الآية 14.
74- سورة الإسراء: الآية 78.
75- سورة الجن: الآية 18.
76- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2، ص 262.
77- وسائل الشيعة، ج 8، ص 9.
78- سورة قريش: الآيتان 3- 4.
79- سورة العنكبوت: الآية 45.
80- سورة طه: الآية 14.
81- سورة العلق: الآية 19.
82- سورة الإسراء: الآية 1.
83- سورة البقرة: الآية 23.
84- سورة البقرة: الآية 40.
85- سورة البقرة: الآية 74.
86- سورة الكوثر.
87- سورة البقرة: الآية 45.
88- بحار الأنوار، ج 21، ص 24- 25. وكيفية هذه الصلاة مذكورة في الكتب المتخصّصة، انظر مثلًا: بحار الأنوار، وكتب الأدعية مثل مفاتيح الجنان، ومفتاح الجنّات، وغيرهما. (المحرّر)
89- سورة النور: الآية 56.
90- سورة البقرة: الآية 256.
91- سورة النساء: الآية 60.
92- سورة المائدة: الآية 106.
93- سورة الحجر: الآية 99.
94- سورة إبراهيم: الآية 37.
95- سورة الأعراف: الآية 31.
96- سورة البقرة: الآية 125.
97- سورة آل عمران: الآية 35.
98- الكافي، ج 2، ص 613.

| 13343 قراءة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد