مواقيت الصلاة
الفجر : 04:16
الشروق : 05:30
الظهر : 11:43
العصر : 15:15
المغرب : 18:14
العشاء : 19:05
منتصف الليل : 23:01
الإمساك : 04:08
X
X
الاعلان

مراتب الإخلاص

مراتب الإخلاص

مراتب الإخلاص

تمهيد

إنّ الوصول دفعة واحدة إلى الإخلاص الكامل لمن كان محجوبًا أمر نادر الحدوث، ولا ينبغي التعويل وترك المجاهدة لتحصيله، كأن يجلس السالك ويصرّ على الدعاء حتى يبلغه، لهذا يحتاج السالك إلى عبور مراتب المجاهدة ومراحل التصفية حتى يصل إليه. ولأنّ العمل هو أول ما يظهر من باطن النفس، فإنّ تصفيته من شوائب عدم الإخلاص تعدّ المرحلة الأولى على هذا الطريق.

والعامل الذي يشقّ طريق الحياة بالسعي والجدّ، ويرى العمل سبيلاً للوصول إلى مرضاة الله، عليه أن يعلم أن عمله لن يوصله إلى الغاية النهائية ما لم يخلصه من الدوافع التي تنشأ من حب النفس والأنانية وطلب حظوظها.

مثل هذا الجهاد قد يتطلّب عبور مراتب عدّة، فمع كلّ مرتبة يكتشف السالك أن نفسه كانت تخفي دوافع لم تكن تخطر على باله.

كثيرة هي الحظوظ التي تحلم بها النفس. وكلّ حظ له إغراءاته التي تشكّل تلك الدوافع، وما لم يتمكّن السالك من تحقيق الخلاص التامّ من رؤية النفس لن يكتب له الإخلاص.

وإنّ جميع الحجب مجتمعة هي كصخرة يريد الإنسان أن يحطّمها. فمع كل ضربة ـ أي مرحلة ـ يفتّت منها شيئًا ويتصدّع. فالذي يسير نحو خرق الحجاب الأعظم يزيل كلّ مرة درجةً منه.

مراحل السير نحو الإخلاص
للوصول إلى الإخلاص الحقيقيّ، يجب تصفية العمل من شوائب الدوافع التي لا تتمحّض مع إرادة الله تعالى.

إنّ الله عزّ وجلّ أراد لعبده أن يكون مرآة صافية تنعكس منها أنوار أسمائه وصفاته. وعلى العبد إذا أراد أن يكون مخلصًا أن يتوجّه إلى هذه الحقيقة دومًا ويطلبها بالقلب والروح من خلال رفض كلّ ما سواها.

ولا شكّ بأنّ كلّ سالك على طريق الإخلاص، سوف يعبر المقامات. وفي كلّ مقام سيكون له نصيب وحظّ كبير من الكمال. فإن أعجبه ذلك ورضيه لنفسه وركن إليه، فهذا يعني أنّه لم يكن منذ البداية طالبًا لما أراده الله، أو أنّه قد تخلّى عن مقصده الأسمى ونسي ما كان عليه.

ما من سالك إلّا وسيُمتحن على طريق الإخلاص، ولن يكون اطّلاعنا على بواطن أنفسنا وما نضمره في نوايانا أمرًا صعبًا.

فما هي مراتب التصفية؟ وكيف يعبر السالك المراتب للوصول إلى الإخلاص الحقيقيّ؟

يقول الإمام الخميني قدس سره:

1- المرتبة الأولى:
"فإحدى مراتبه: تصفية العمل، قلبيًّا كان أم قالبيًّا، من شائبة رضا المخلوق وجذب قلوب المخلوقين، سواء كان للمحمدة أو المنفعة أو لغيرها، وفي مقابل هذه المرتبة أداء العمل رياءً، وهذا هو الرّياء الفقهيّ، وهو أحطّ وأدنى مراتب الرياء، وصاحبه أرذل المرائين وأخسّهم"1.

الرياء الفقهي هو الذي يبطل العمل، ويستلزم إعادته. ومع هذا الرياء فإنّ العمل لا يكون مقبولًا عند الله، ولا يرفع صاحبه إلى الله.

2- المرتبة الثانية:
"المرتبة الثانية: تصفية العمل عن تحصيل المقاصد الدنيويّة والمآرب الزائلة الفانية، وإن كان الدّاعي أنّ الله تعالى يعطيها بواسطة هذا العمل، كإتيان صلاة الليل لتوسعة الرزق وإتيان صلاة أول الشهر للسلامة من الآفات في ذلك الشهر وإعطاء الصدقات للعافية، وسائر المقاصد الدنيوية. وقد عدّ بعض الفقهاء (عليهم الرحمة) هذه المرتبة من الإخلاص شرطًا لصحّة العبادة، فيما إذا كان إتيان العمل للوصول إلى ذلك المقصود. وهذا الرأي خلاف التحقيق حسب القواعد الفقهية، وإن كانت هذه الصلاة عند أهل المعرفة لا قيمة لها أصلًا وهي كسائر المكاسب المشروعة، بل لعلّها تكون أقلّ منها أيضًا"2.

لكي تكون العبادة خالصة لله، ينبغي أن يكون المقصد الوحيد فيها هو الله. فإذا كان الدافع منها هو تحصيل الفوائد الدنيوية، فلا تكون لله. لكنّ هذا الدافع لا يستوجب إعادة الصلاة بحسب رأي الإمام قدس سره.

أجل، إنّ من يقوم ببعض العبادات امتثالاً لأمر الله تعالى وتحرّكاً نحو ما يريده الله له، فليس خارجاً عن الإخلاص. فمن تحرك في العبادة لنيل المقاصد الدنيوية، لأنّ الله يريده أن يتحرّك نحوها، ويصل إليها، فهو المخلص إن شاء الله. وإن كان للنفس في هذا المجال مكائد وحبائل يفضّل عندها إساءة الظنّ وعدم الركون إلى ما تقدّمه لنا من أعذار البراءة.

وعلامة الإخلاص في هذا المجال ألّا يختلف نشاط العابد في العبادة التي يؤدّيها امتثالًا لأمر الله، سواء اطّلع على فوائدها الدنيوية أو لم يطّلع، لأنّ المخلص هدفه الامتثال، وقد تحقّق الامتثال عنده في كِلا الحالين.

3- المرتبة الثالثة:
"المرتبة الثالثة: تصفيته عن الوصول إلى الجنّات الجسمانية والحور والقصور وأمثالها من اللذات الجسمانية، وفي مقابلها عبادة الأُجراء كما في الروايات الشريفة، وهذا أيضًا في نظر أهل الله كسائر المكاسب، إلّا أنّ أجرة عمل هذا الكاسب أكثر وأعلى إذا قام بالأمر وخلّصه من المفسدات الصورية"3.

إنّ طلب الحظوظ الأخروية كدافع للنفس، وإن كان في التصوّر ممكناً، لكنّه في مقام الواقع بعيد، فمن الصعب أن يكون المرء طالبا للحظوظ الأخروية وهو لا يؤمن بالله تعالى. ومثل هذا الارتباط بين خيرات الآخرة ومعطيه وصاحبها الأصلي أمر لا مفرّ منه، لهذا يصعب كثيرا أن يندفع الإنسان نحو كمالات الآخرة بمعزل عن الله تعالى.

ولو كان الإنسان طالبا لهذه الكمالات على مستوى الدافع، فإنّه يوشك أن يستبدل ذلك عما قريب بطلب صاحبها.

ولا شكّ بأنّ الله يريد لنا أن نطلب منه كلّ خير، ولا شكّ بأنّ خيرات الآخرة الدائمة الباقية أعظم شأنا عنده تعالى، فحريّ بنا أن نطلبها منه ليل نهار.

4- المرتبة الرابعة:
"المرتبة الرابعة: أن يصفّي العمل من خوف العقاب والعذاب الجسماني الموعود، وفي مقابلها عبادة العبيد كما في الروايات، وهذه العبادة أيضًا في نظر أصحاب القلوب لا قيمة لها وخارجه عن نطاق العبودية لله.

ولا فرق في نظر أهل المعرفة أن يعمل الإنسان عملاً من خوف الحدود والتعزيرات في الدنيا أو خوف العقاب والعذاب الأخروي، أو للوصول إلى نساء الدنيا أو الحصول على نساء الجنة... فالعمل فيها كلّها ليس لله، والداعي لهذا الأمر يُخرج العمل عن البطلان الصوري طبقا للقواعد الفقهية، ولكن ليس لهذا المتاع قيمة في سوق أهل المعرفة"4.

ما دام الأمر ناشئًا من طلب حظوظ النفس، فهو ليس لله تعالى، بمعزل عن بطلان العمل ووجوب إعادته أو لا.

5- المرتبة الخامسة:
"المرتبة الخامسة: تصفية العمل من الوصول إلى السعادات العقلية واللذّات الروحانية الدائمة الأزلية الأبدية، والانسلاك في سلك الكروبيين، والانخراط في زمرة العقول القادسة والملائكة المقرّبين، وفي مقابلها العمل لهذا المقصد. وهذه الدرجة، وإن كانت درجة عظيمة وهدفاً عالياً ومهمّاً، والحكماء والمحقّقون يهتمّون بهذه المرتبة من السعادة اهتماماً كبيراً ويرَون لها قيمة، ولكن في مسلك أهل الله هذه المرتبة أيضًا هي من نقصان السلوك، وسالكها أيضًا يعدّ كاسباً ومن الأجراء، وإن كان يختلف عن غيره في المتجر والمكسب"5.

وهذا يعني أنّ حظوظ النفس لا تنحصر في إطار الماديات والمشتهيات. فللنفس في المقامات العالية حظوظ لا يمكن لأهل الدنيا أن يعرفوا عنها شيئًا.

6- المرتبة السادسة:
المرتبة السادسة: هي في إزاء هذه المرتبة، وهي تصفية العمل من خوف عدم الوصول إلى هذه اللذّات والحرمان من هذه السعادات، وفي مقابلها العمل لهذه المرتبة من الخوف، وهذه أيضًا وإن كانت مرتبة عالية وخارجة عن حدّ اشتهاء أمثال هذا الكاتب، ولكنّها أيضًا في نظر أهل الله عبادة العبيد. وهي عبادة عليلة"6.

7- المرتبة السابعة:
"المرتبة السابعة: تصفية العمل من الوصول إلى لذّات جمال الله والوصول إلى بهجات أنوار السبحات غير المتناهية، وهي جنّة اللقاء. وهذه المرتبة، أي جنة اللقاء، هي من أهمّ مقاصد أهل المعرفة وأصحاب القلوب وأيدي آمال النوع عنها قاصرة، والأوحدي من أهل المعرفة يتشرّف بشرف هذه السعادة، وأهل الحبّ والجذبة من كمّل أهل الله وأصفياء الله. ولكن ليست هذه المرتبة هي كمال مرتبة الكمّل من أهل الله، بل هي من مقاماتهم العادية، وما في الأدعية كالمناجاة الشعبانية من أنّ أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين استدعوا هذه المرتبة من الله أو أشاروا بكونهم متحقّقين بها، فليس من جهة أنّ مقاماتهم منحصرة بهذه المرتبة.

8- المرتبة الثامنة:
كما أنّ المرتبة الثامنة في إزاء هذه المرتبة، وهي عبارة عن تصفية العمل من خوف الفراق أيضًا ليست من كمال مقامات الكمّل، وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فكيف أصبر على فراقك..."7 فمن مقاماته العادية ومقامات أمثاله كذلك.
وبالجملة، إنّ تصفية العمل من هاتين المرتبتين أيضًا لازمة عند أهل الله، والعمل معها عليل، وليست خارجة عن الحظوظ النفسانية، وهذا كمال الخلوص"8.

بعض درجات الإخلاص وما يقابلها
"فحيث وصل الكلام إلى هنا، لا بدّ أن أذكر بعض الدرجات الأخرى للإخلاص بما يناسب المقام"9.

1- عدم رؤية استحقاق الثواب:
"فمن درجات الإخلاص: تصفية العمل من رؤية استحقاق الثواب والأجر، وفي المقابل شوبه بطلب الأجر ورؤية استحقاق الأجرة والثواب. وهذا لا يخلو من درجة من الإعجاب بالعمل، لا بدّ للسالك من تخليص نفسه منه"10.

أ- من أين تنشأ رؤية الاستحقاق؟
"وهذه الرؤية من نقصان معرفة حاله وحقّ الخالق تعالى شأنه، وهذا أيضًا من الشجرة الشيطانية الخبيثة التي ترجع إلى رؤية النفس وفعلها والإنّيّة والأنانية.

فالإنسان المسكين ما دام في حجاب رؤية أعمال نفسه ويراها من نفسه ويرى نفسه متصرّفًا في الأمر فلن ينجو من هذا المرض، ولا يحقّق هذه التصفية والتخليص"11.

لا يطلب الإنسان الأجر ولا يرى نفسه مستحقًّا له إلا إذا كان يرى العمل من نفسه، بمعنى صدوره على نحو الاستقلال. وإنّما يطلب الثواب إذا كان يرى لعمله قيمة، فهل هذا صحيح؟

لو عرف العامل العابد أنّه وعمله تفضّل من الله تعالى، وعرف أنّ كلّ عمل يقوم به لا يمكن أن يكون لائقًا بذات الحقّ المتعال، فهل يمكن أن يبقى ذلك الشعور وهذا الطلب؟

فرؤية الاستحقاق تنشأ من عدم إدراك التوحيد، كما أنّ الفرح أو الإعجاب بالعمل لا يكون إلا إذا نسي العبد ما معنى شأن الله تعالى.

كيف يمكن لأيّ عمل أن يكون لائقًا بذات الله؟ والله تعالى أعظم من أن يدرك أي مخلوق علوّ شأنه.

ب- العلاج:
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فالسالك لا بدّ له أن يجهد ويفهم القلب بالرياضات القلبيّة والسلوك العقليّ والعرفانيّ، أنّ جميع الأعمال من الهبات الإلهيّة والنعم التي أجراها الحقّ تعالى على يد العبد، فإذا استقرّ التوحيد الفعليّ في قلب السّالك، فلن يرى العمل من نفسه ولا يطلب الثواب، بل يرى الثواب تفضّلًا والنّعم ابتداء"12.

ج- شواهد من النصوص:
"وقد ذُكرت هذه اللطيفة الإلهيّة كثيرا في كلمات الأئمّة والأطهار عليهم السلام، وخصوصاً الصحيفة السجادية، هذه الصحيفة النورانية التي نزلت من سماء عرفان العارف بالله والعقل النوراني لسيّد الساجدين لخلاص عباد الله من سجن الطبيعة وتفهيمهم أدب العبودية والقيام بخدمة الربوبية. فقد ذكرت هذه اللطيفة الإلهيّة كثيرا، كما في الدعاء الثاني والثلاثين يقول عليه السلام: "لك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام وإلهامك الشكر على الإحسان"13، وفي موضع آخر يقول: "نعمك ابتداء واحسانك التفضّل"14، وفي مصباح الشريعة يقول: "وأدنى حدّ الإخلاص بذل العبد طاقته، ثمّ لا يجعل لعمله عند الله قدرًا فيوجب به على ربّه مكافأة لعمله"15،16.

2- عدم الاستكثار والفرح بالعمل:
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "والدرجة الأخرى للإخلاص تصفية العمل من الاستكثار والفرح به والاعتماد والتعلق به. وهذا أيضًا من مهمّات سلوك السالك، لأنّ الاستكثار يصدّ السّالك عن قافلة السالكين إلى الله ويحبسه في سجن الطبيعة"17.

أ- من أين ينشأ الاستكثار والفرح بالعمل؟
"وهو أيضًا ينبت من الشجرة الخبيثة الشيطانية، وينشأ من حبّ النفس الذي هو إرث الشيطان الذي قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ18، وهو من جهل الإنسان بمقامه ومقام معبوده جلّت عظمته"19.

ب- العلاج:
"إذا كان المسكين الممكن يعرف مقام نقصه وعجزه وضعفه ومسكنته، ويعرف مقام عظمة الحقّ ومجده وكماله، فلا يرى عمله عظيمًا أبدًا ولا يحسب نفسه قائمًا بالأمر، فالمسكين يتوقّع من ركعتين لصلاة ـ لا تساوي سنة منها في سوق أهل الدنيا أكثر من ثمانين دينارًا، هذا إذا كانت صحيحة ومجزية ـ توقّعات غير متناهية!

وهذا هو الفرح والاستكثار في العمل الذي هو مبدأ لكثير من المفاسد الأخلاقية والفعلية، يطول ذكرها"20.

ج- شواهد من النصوص والسيرة:
وقد أشاروا عليهم السلام في الأحاديث إلى هذا المطلب، كما في الكافي الشريف، بإسناده إلى موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال لبعض ولده: "يا بني، عليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ"21، وقال عليه السلام في حديث آخر: "كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن مقصّرا عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلا من عصمه الله عزّ وجلّ"22.

وعنه عليه السلام: "لا تستكثروا كثير الخير"23. وفي الصحيفة الكاملة في وصف ملائكة الله، يقول عليه السلام: "الذين يقولون إذا نظروا إلى جهنّم تزفر إلى أهل معصيتك، سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك"24.

فيا أيها الضعيف، ففي الوقت الذي يعترف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز والتقصير، ويقول: "ما عرفناك حقّ معرفتك، وما عبدناك حقّ عبادتك"25 وهو أعرف خلق الله، وعمله أنور من أعمال جميع الناس وأعظم من جميعها، وكذا الأئمّة المعصومون يظهرون ذاك النحو من القصور والتقصير في المحضر المقدس، فماذا يتأتّى من بعوضة هزيلة؟!

نعم، إنّ مقام معرفتهم بعجز الممكن وعزّة الواجب وعظمته - تعالى شأنه - كانت تقتضي تلك الإظهارات والاعترافات. وأمّا نحن المساكين، فمن الجهل والحجب المتنوّعة التي أمسكت برقابنا قمنا نتكبّر ونعجب بأنفسنا ونتظاهر بأعمالنا، فيا سبحان الله، ما أصدق كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله"26.

أليس من فقدان العقل أن الشيطان يعمّي علينا أمراً ضروريا ولا نقوم بوزنه في ميزان العقل؟ إنّا نعلم بالضرورة أنّ أعمالنا وأعمال جميع البشر العاديين، بل أعمال جميع ملائكة الله والروحانيين في ميزان أعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام ليس لها قدر محسوس، ولا تعدّ شيئاً، وفي الوقت نفسه فإنّ الاعتراف بالتقصير وإظهار العجز عن القيام بالأمر من أولئك الأعاظم متواتر، بل فوق حد التواتر.

وهاتان القضيتان الضروريتان تنتجان لنا ألا نفرح بشيء من أعمالنا، بل علينا إذا قمنا بالعبادة والطاعة طول عمر الدنيا أن نكون خجلين وننكّس رؤوسنا في محضره. ومع هذه الحال فقد تمكّن الشيطان في قلوبنا، وسيطر على عقولنا وحواسنا، بحيث لا نخرج بنتيجة من هذه المقدّمات الضرورية، بل تكون أحوال قلوبنا على العكس.

إنّ مولىً كانت ضربة واحدة منه يوم الخندق أفضل من جميع عبادات الجنّ والإنس، بتصديق رسول الله، يظهر في عبادته ورياضاته ـ التي كان علي بن الحسين، وهو أعبد خلق، الله يُظهر العجز أن يكون مثله ـ العجز والتذلّل والاعتراف بالقصور والتقصير أكثر منّا.

ورسول الله الذي كان علي المرتضى وجميع ما سوى الله عبيدا لجنابه، ومتنّعمين من سقطات موائد نعمته في معارفه ومتعلمين بتعليمه، بعدما خلع بخلعة النبوّة الختمية، الذي كان نهاية مسير دائرة الكمال واللبنة الأخيرة للمعرفة والتوحيد يقوم بالأمر عشر سنوات في جبل حراء على قدميه، ويقوم بالطاعة حتى تتورّم قدماه الشريفتان، وأنزل الله تعالى عليه ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى27، أيّها الطاهر الهادي، ما أنزلنا عليك القرآن لتقع في المشقّة، فإنّك طاهر وهادٍ، وإن كان الناس لا يطيعونك فهو من نقصهم وشقاوتهم، لا من نقصان سلوكك أو هدايتك، ومع ذلك يعلن (صلوات الله عليه) عجزه وقصوره.

إنّ السيد ابن طاووس قدس سره ينقل حديثا عن علي بن الحسين عليه السلام، ونحن نُبارك هذه الرسالة به، وإن كان الحديث طويلا، ولكن بما إنّه ذكر بعض حالات المولى، تتعطّر شامة الأرواح به. وتلتذّ ذائقة القلوب منه.

عنه قدس سره في فتح الأبواب، بإسناده عن الزهري، قال: "دخلت مع علّي بن الحسين عليهم السلام على عبد الملك بن مروان، قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين عليهم السلام، فقال: يا أبا محمد، لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريب النسب وكيد السبب، وإنّك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤتَ أحد مثلك ولا قبلك إلّا من مضى من سلفك، وأقبل يثني عليه ويطريه، فقال علي بن الحسين عليهم السلام: "كلّ ما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم يا أمير المؤمنين؟ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقف في الصلاة حتى تتورّم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه، فقيل له: يا رسول الله، ألم يغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبدًا شكورًا، الحمد لله على ما أولى وأبلى، وله الحمد في الآخرة والأولى... والله، لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار، ولا سرّ ولا علانية، ولولا أنّ لأهلي عليّ حقّا ولسائر الناس من خاصّهم وعامّهم عليّ حقوقاً، لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤدّيها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله، ثم لم أرددهما حتى يقضي الله على نفسي، وهو خير الحاكمين... وبكى عليه السلام، وبكى عبد الملك"28 الخبر"29.
 

* الآداب المعنوية للصلاة في ضوء فكر الإمام الخميني(قده)



1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 174.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 174.
3- م.ن، ص 175.
4- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 175.
5- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 175.
6- م.ن، ص 175.
7- ابن طاووس، علي بن موسى‏، إقبال الأعمال، ج2، ص 708.
8- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 176.
9- م.ن، ص 183.
10- م.ن.
11- م.ن.
12- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 183.
13- الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجادية، قم، نشر الهادي، 1418هـ، ط 1، من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلاة الليل، ص 152.
14- م.ن، من دعائه عليه السلام في الاعتراف وطلب التوبة إلى الله تعالى، ص 64.
15- الامام جعفر الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 37.
16- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 183 - 184.
17- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ن، ص 184.
18- سورة الأعراف، الآية 12، سورة ص، الآية 76.
19- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 184.
20- م.ن، ص 184.
21- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 72.
22- م.ن، ص 73.
23- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 287.
24- الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجادية، ص 38.
25- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص 23.
26- السيد الرضي، نهج البلاغة، ص 507.
27- سورة طه، الآيتان 1 - 2.
28- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج1، ص 125.
29- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 184 - 187.

| 9618 قراءة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد